تلحق أزمة التقاعد المشتعلة في البرازيل ضررًا بالغًا بالماليات العامة لأكبر بلد في أميركا اللاتينية، وتفاقم جدلاً سياسيًا حول الوضع الاقتصادي الذي دفع رئيسة البلاد إلى الصراع من أجل البقاء في السلطة. وكمثال لهذا الوضع، ينقل تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز» من البرازيل أنه عندما بلغت روزانيلا أروجو، المشرفة على إحدى المدارس العامة في البرازيل، الرابعة والأربعين من عمرها، شعرت بأنها عملت بما فيه الكفاية. وهكذا حذت الآنسة أروجو حذو ملايين المواطنين الآخرين في هذا البلد ممن أصبحوا في العقد الخامس والسادس من حياتهم، وتركت العمل لتحصل على راتب تقاعد كامل. ويتقاعد البرازيليون في المتوسط عند سن الرابعة والخمسين، ويتمكن بعض الموظفين الحكوميين والمسؤولين العسكريين والساسة من الجمع بين عدة رواتب تقاعد تبلغ في مجملها أكثر من مائة ألف دولار سنويًا. وعندما يموتون تمكن الثغرات القانونية زوجاتهم أو بناتهم من الجمع بين تلك الرواتب لبقية أعمارهن أيضا. وتشيع هذه الظاهرة في القطاع العام العريض بدولة البرازيل، حتى إن بعض موظفي الحكومة المتقاعدين، وكثير منهم تجاوز الستين أو السبعين، يرتبطون بنساء أصغر منهم كثيرا في العمر بحيث يصبحن مستحقات لرواتب التقاعد كاملة لعقود طويلة بعد وفاة أزواجهن. ويقول باولو تافنر، وهو خبير اقتصادي ومرجع رائد في نظام التقاعد بالبرازيل «إنه يشبه اليونان، لكن على نطاق أضخم وأكثر جنونًا.. ينبغي أن تشعر البلاد بأسرها بالخوف حتى النخاع. إن رواتب التقاعد التي يحصل عليها البرازيليون والأعمار التي يبدأون عندها في تلقي هذه الرواتب لا يمكن وصفها إلا بالمخزية». وتغذي أزمة التقاعد في البرازيل الاضطرابات السياسية التي تشهدها البلاد، فيما تقاوم الرئيسة ديلما روسيف النداءات الداعية إلى إزاحتها عن السلطة. لقد تأزم الاقتصاد البرازيلي بشدة، وقضت محكمة الحسابات الفيدرالية في البلاد هذا الشهر بأن السيدة روسيف انتهكت الإجراءات المحاسبية السليمة عبر استخدامها أرصدة من بنوك حكومية عملاقة لتغطية عجز الموازنة. ويجري الآن خفض ميزانيات التعليم والصحة في البلاد، كما تقترح السيدة روسيف إجراءات للحيلولة دون تضخم الإنفاق على رواتب التقاعد أكثر من ذلك. لكن الكونغرس المتمرد وافق هذا العام على زيادة كبيرة في مزايا التقاعد. إلا أن السيدة روسيف اعترضت على التشريع، مما هيأ الساحة أمام نشوب معركة حامية الوطيس مع أعضاء البرلمان. ويرى بعض حلفاء الرئيسة البرازيلية أن هذه المواجهة تأتي في إطار استراتيجية خصومها لعزلها من المنصب. إلا أن خبراء الاقتصاد يحذرون من أن أزمة التقاعد سوف تزداد حدة بغض النظر عن بقاء السيدة روسيف في منصبها من عدمه، ويصنفون المشكلة على أنها واحدة من القيود الهيكلية الشائكة التي تواجهها البلاد. وكان مسؤولون قد توقعوا عجزًا كبيرًا في نظام التقاعد بحلول عام 2030، لكنهم يقولون الآن إن ذلك قد يحدث العام المقبل. وتشهد البرازيل في الوقت الراهن أشد تراجع اقتصادي تواجهه منذ عقود، مما يستنزف الوظائف ويقلص الاشتراكات في نظام التقاعد. وأعلنت هيئة الإيرادات الفيدرالية أن مبالغ الاشتراكات تراجعت بواقع 9 في المائة خلال شهر أغسطس (آب) الماضي. يضاف إلى ذلك كله معدل الخصوبة المتهاوي في البرازيل، والذي تراجع مؤخرًا إلى 1.77 طفل للمرأة الواحدة، أي أقل من المعدل اللازم لإحلال السكان لأنفسهم - وهو الأمر الذي يعزز بدوره الضغوط على نظام تقاعد يعاني بشدة بالفعل. ويعكس هذا التحول جزئيًا ارتفاع مستويات المعيشة في العقود الأخيرة، وزيادة إتاحة وسائل تحديد النسل، لكنه سيؤدي إلى تراجع أعداد الشباب الذين يدعمون السكان الأكبر سنًا والأكثر عددًا في البلاد. وتشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن معدل الخصوبة في البرازيل كان يبلغ 4.3 طفل للمرأة الواحدة حتى عام 1980. كما ارتفع متوسط العمر المتوقع لسكان البرازيل إلى 74.9 سنة في 2013، مقابل 62.5 سنة في 1980، حسبما تفيد الإحصائيات الحكومية. ويقول الباحثون إن البرازيل لا تصنع مخزونًا فائضًا يؤهلها للوفاء بطفرة قادمة في الالتزامات التقاعدية الجديدة، لتهدر ميزة ديموغرافية تتمتع بها الآن لكنها سرعان ما ستزول. ويلفت خبراء الاقتصاد النظر إلى أن البرازيل تنفق بالفعل أكثر من 10 في المائة من إجمالي الناتج القومي للبلاد على رواتب التقاعد العامة، أي ما يوازي تقريبًا ما أنفقته مؤخرًا دول جنوب أوروبا التي تمتلك سكانًا أكبر عمرًا، بحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وما لم يتم إدخال تعديلات على نظام التقاعد الحالي في البرازيل، فإن البلاد ستكون على موعد مع صدمة أشد وطأة، في ضوء أنه من المتوقع أن يبلغ عدد المواطنين البرازيليين في سن الستين أو يزيد نحو 14 في المائة من إجمالي سكان البلاد في غضون عقدين، مقابل 7 في المائة فقط الآن. لكن التحدي الأكبر الذي يواجه القادة السياسيين على مختلف مشاربهم الآيديولوجية هو ذلك التحدي الذي ساعدوا بأنفسهم في حدوثه: سخاء رواتب التقاعد في البرازيل. بعض المسؤولين يتدخلون من حين لآخر لمعالجة القضية، حيث حاولوا رفع سن التقاعد إلى 65 للرجال و60 للنساء، ومنع الأرامل الشابات من سهولة التحصل على رواتب تقاعد أزواجهن المتوفين، أو الحيلولة دون تلقي كثيرين في القطاع الخاص أجورهم كاملة ورواتب التقاعد. لكن الثغرات القانونية تتعدد في هذا المضمار وتجعل من السهل نسبًيا على البرازيليين أن يتقاعدوا في أعمار أقل، مع فرصة الحصول على رواتب تقاعد تعادل في العادة كامل أجورهم. ويتقاعد الرجال البرازيليون الآن في سن الخامسة والخمسين في المتوسط، بينما يتقاعد أقرانهم في اليونان عند سن الثالثة والستين في المتوسط أيضا. ويستطيع نظام التقاعد تخفيف وطأة الفقر المدقع في البلاد. على سبيل المثال، يمكن للعمال الزراعيين أن يتقاعدوا قبل الآخرين بخمس سنوات حتى لو لم يكونوا قد أسهموا مطلقًا في نظام التقاعد العام، حيث يتلقون راتبًا شهريًا يعادل الحد الأدنى للأجور والذي يبلغ نحو 210 دولارات شهريًا. لكن هذا النظام يديم أيضا التفاوت بين الطبقات عبر توفير مزايا اجتماعية لمئات الآلاف من الموظفين الحكوميين وعائلاتهم. على سبيل المثال، ألغى مسؤولون في عام 2000 اللوائح التي تسمح لبنات العسكريين بتلقي رواتب تقاعد آبائهن بعد وفاتهم. لكن هذا التعديل انطبق فحسب على المنخرطين الجدد في القوات المسلحة، وهكذا لا تزال أكثر من 185 ألف امرأة تتلقى رواتب تقاعد آبائهن والتي تعادل كامل أجورهم عند تقاعدهم من الخدمة العسكرية. ويقول خبراء الاقتصاد إن الإنفاق على مثل هذه الرواتب التقاعدية متوقع أن يستمر حتى نهاية هذا القرن. كما أن هذا النوع من المزايا التقاعدية شائع في النظام البيروقراطي العام بالبرازيل، حتى إنه من المقدر أن تنفق البلاد 3 في المائة تقريبًا من إجمالي ناتجها القومي على رواتب أسر المتقاعدين المتوفين، أي نحو 3 أضعاف المستوى الذي تنفقه الكثير من البلدان الصناعية الغنية. الساسة على وجه الخصوص كانوا دومًا مهرة في تأمين رواتب تقاعد كبيرة على مستوى الولايات. وفي ولاية بارا بالأمازون، كان الحكام السابقون والسيدات الأول السابقات يتلقون حتى وقت قريب رواتب تقاعد تصل إلى 7 آلاف دولار شهريًا، حتى لو كانوا لم يقضوا سوى سنوات قليلة في مناصبهم. وأوقفت المحكمة الفيدرالية العليا في البرازيل مثل هذه الرواتب العام الحالي. لكن ولايات أخرى تعاني بسبب مدفوعات مماثلة. وفي ولاية ريو دي جانيرو، كانت السلطات هناك تعتمد على العائدات التي تحصلها من الشركات المنتجة للنفط البحري قبل أن تهبط أسعار النفط هبوطًا حادًا في الشهور الأخيرة. ويعد المسؤولون في ريو الآن حزمة إنقاذ مالي لتحويل نحو 500 مليون دولار من خزانة الولاية لتغطية العجز في نظام التقاعد هذا العام. ويعني ارتفاع المخصصات المالية لرواتب التقاعد في ريو قلة الموارد المتوافرة للخدمات الأساسية الأخرى مثل المدارس والمستشفيات والشرطة وأنظمة الصرف الصحي. ويقول مسؤولون إن ريو تعتزم إنفاق نحو 4.5 مليار دولار هذا العام على المزايا التقاعدية، مقابل نحو 3.6 مليار دولار ستنفقها على التعليم العام والأنظمة الصحية في الولاية. ويقول ماريانو بوتش، الخبير في أسواق العمالة ببنك «إنتر أميركان للتنمية»، إن «أمام البرازيل 3 خيارات واضحة جدًا لمنع حدوث زيادات كبيرة في الإنفاق على التقاعد: زيادة الاشتراكات، رفع سن التقاعد، أو تقليص رواتب التقاعد.. لكن جميع هذه الخيارات لا تحظى بأي تأييد شعبي». وحتى الآن، لا يبدو أن القادة السياسيين مستعدون لتبني أي من هذه الخيارات الثلاثة. وعوضًا عن ذلك، يسعى وزير المالية جواكيم ليفي إلى إحياء الضريبة على المعاملات المالية والمرفوضة على نطاق واسع في مسعى لسد العجز في نظام الرواتب. وترفض نقابات أرباب المعاشات ذات التنظيم الجيد كل الدعاوى لتقليص المزايا التقاعدية. ويقول جواو بيمنترا (63 عامًا)، وهو رئيس سابق لرابطة مديري المتاجر تقاعد في سن 49 عامًا ويقود في العادة الاحتجاجات ضد خفض رواتب التقاعد في العاصمة برازيليا: «إجبار المتقاعدين على دفع الثمن ليس من العدل.. لماذا لا يطالبون النخبة الاقتصادية بالتضحية؟ سئمت من سماع الأحاديث عن حاجة الأشخاص العاديين إلى دفع الثمن من رواتبهم التقاعدية». ويأمل بعض المحللين أن تفتح المعارك السياسية الدائرة في البرازيل الباب أمام إيجاد حلول لمشكلة التقاعد في البلاد. لكن آخرين يقولون إن الأزمة ربما تحدث في الواقع أثرا عكسيًا يتمثل في تقوية شوكة خصوم السيدة روسيف في الكونغرس الذين يسعون بكل ضراوة إلى زيادة المزايا التقاعدية. وفي حال الإطاحة بالسيدة روسيف، يشير محللون سياسيون إلى أن حزب العمال الحاكم الذي تنتمي إليه سوف ينتقل إلى صفوف المعارضة، مما قد يشجعه على حشد وتعبئة نفس تلك النقابات التي ترى في إصلاح نظام التقاعد عملاً ممقوتًا. ويقول راؤول فيلوسو، المتخصص في الماليات العامة: «لطالما كانت رواتب التقاعد العامة في البرازيل كارثة تسير بالحركة البطيئة.. الاختلاف الآن هو أن الانهيار تسارعت وتيرته، ليكشف لأبنائنا مدى الجبن السياسي وانعدام المسؤولية الذي يمارسه عليهم قادتنا».
مشاركة :