لقد وقفت أمام عمل روائي بالغ الإتقان، هو قمة من قمم الرواية التأريخية العربية والعالمية. عمل أبهرني بجمال الأسلوب وإحكام البناء، ودقة وثراء التفاصيل، والقدرة على سلب لب القارئ. حسبتني في الرواية شاهد عيان مرافقا لظاهر العمر في كل أحداث حياته من شبابه إلى مقتله.. لم يغب عني لحظة. ولشغفي لم أكن ألتفت إلى مواطن التخييل من حقائق الواقع. يكفي أنني وقفت على ضفاف طبرية أرقب وقع الخيول، وآذانها تلامس سماء النصر. تعد العتبات النصيّة آلية نقدية لمراودة آفاق النص ومفتاحا للكشف عن العلائق النصية بين النص ومتعالياته كالعنوان. فالعنوان أحد النصوص الموازية، له دور وظيفي تفاعلي، ومستقل في آن واحد. مفردة قناديل في العنوان جمع قنديل، مصباح كالكوب في وسطه فتيل، يملأ بالزيت ليشتعل. له صفة الاشتعال والإنارة. كما تطرأ عليه حالات القوة عندما يكون خزان الزيت ممتلئا، ويصاب بالضعف والرعشة عندما يقل مقدار الزيت الذي يغذيه. ويدخل في صراع مع الرياح التي لا تفتأ تهب. وهو طوال حياته يقاوم الانطفاء، وقد يحتاج إلى زجاج يقيه تلك المخاطر. قارب الراوي القناديل في صفاتها بالإنسان في قوة شكيمته وتمتعه بنفس وروح متوهجتين وجسد قادر على خوض معاركه الوجودية. وكيف يطرأ عليه ما يطرأ على القنديل بسبب عواصف الحياة، فيتخاذل ويضعف ويجبن. بل ويسهل انطفاؤه. وقد ارتبط القنديل بعقيدة أسطورية، ربما هي في موروث أهل المشرق العربي، وخاصة الشام وفلسطين، إذ تمثل شعلة القنديل حياة صاحبه في حالاتها المختلفة. فاشتعالها وثباتها دالان على طول عمر وصحة وعافية. وعندما تضطرب يصاب الشخص أو من هم حوله بالوجل، من تغيرات وشيكة، قد تحدث. وإذا انطفأ ففي ذلك تهديد لحياة صاحب القنديل. في إضافة قناديل لملك الجليل إشارة دلالية إلى تلك الشخوص التي أحاطت بالشيخ ظاهر العمر. واستند إليها في قوته وسطوته، تلهمه وتقويه وتشير عليه أو تضعفه وتفتّ في عضده، من الرجال والنساء والإخوة والأولاد والأعوان. وقد عكس المتن السردي في الرواية ذلك المعتقد. وكشف عن حالات من الفرح والسعادة عندما تتوهج القناديل وتقوى شعلتها. وحالات من القلق والخوف عندما تهتز وتخفت. والحرص على ألا تنطفئ. ورغم حرص الشيخ ظاهر على استمرار قناديله مشتعلة لا بد يوما أن تهتز أو تنطفئ.. فقد كانت قناديل من يحتاج إليهم ويحرص على بقائهم، تنطفئ الواحد تلو الآخر.. أما في أتون الحروب التي لم تتوقف فتلتهم الناس كما تلتهم النار الفراش، أو بسبب سلطان الموت الذي لا بد منه. ومنهم من ترتعش قناديلهم تحت إغراء الأطماع، والأنا المتضخمة للاستحواذ على السلطة والخيانات التي سرعان ما تنكشف. انطلقت رحلة القناديل منذ اجتمع الإخوة بعد دفن أبيهم، لاختيار خليفة له: (فتح ظاهر عينيه في ذلك الصباح فوجد إخوته فوق رأسه، لولا أنّ سيوفهم في أغمادها، لظنّ أنهم قاتلوه!.. في تلك الغرفة الواسعة أربعة قناديل كانت تضيء. الريح ساكنة، ليس هناك سوى صوت أنفاس، أنفاس قادمة من رئات بعيدة، رئات لا تعود للأجساد الأربعة التي بدت أشبه بتماثيل.. أمواج بحيرة طبرية التي تضرب جدار البيت كان لها وقع هدير بحر. كلّ واحد منهم جلس محدّقًا في شعلة قنديله التي أمامه، وهو على يقين أنه يحدّق في قدره! ) ص13. أما أول الانطفاء أمام عيني ظاهر فكان قنديل الشيخ حسين وابنه عباس على مذبح البعنة. ص38. لكن القناديل لم تتوقف عن سيرورة الاشتعال والانطفاء حتى نهاية الرواية... وللقناديل حكاية (خطوة إشعال القناديل كانت آخر ما يمكن أن يلتجئ إليه الناس حينما يختلفون. حين يكون هناك أمر عظيم فيه ملامسة لأطراف الموت لاختيار ذلك الذي ستنطفئ شعلته أولا، الذي يعتقدون أن حظه يقول إنه لن يعيش طويلا.. ) ص41 ورغم ارتعاش قنديل ظاهر ثم استقامته في ليلة القناديل فقد بقي قنديله وقنديل نجمة مُشعَّين حتى لحظة موته قتيلا على يد أحد قناديله الغادرة. ورغم ذلك.. فقد ذوى قنديله مختزلا في كل قناديله التي انطفأت: (في ذلك الليل الموزع بين فرح غاب وفرح عائد، جلس ظاهر في الحديقة مع نجمة حتى الصباح، ولو لم يكن صوته هناك لأحست نجمة أنها أمضت الليل وهي تكلم نفسها. - تعرفين يا أمي! لم تزل ليلة القناديل تلح علي بين وقت وآخر. لقد أصبحت بعيدة، وظل قنديلي الذي انطفأ مشتعلا! ولكني منذ ذلك اليوم أحسه يخبو أكثر فأكثر، كلما رأيت قنديلا أحبه يطفأ. لقد انطفأ قنديل أبي، ليكون لي قنديل، وانطفأت قناديل عباس والشيخ حسين وأخي صالح، وأخي سعد، وقنديل نفيسة، وقنديل بشر، وقنديل الجهجاه وقنديل صليبي، ولا تستغربي إن قلت لك قنديل الأمير رشيد الجبر أيضا! كأن قنديلي الذي انطفأ في ذلك اليوم لم يكن قنديلي، كان قنديل شخص آخر، أما قنديلي فكان كل هذه القناديل التي انطفأت واحدا بعد آخر. - لكنني مازلت حية يا ظاهر، أم إنني لست جزءا من ذلك القنديل.) وفي التركيب الإضافي (ملك الجليل) تقدح عبارة ملك الجليل في ذهن القارئ صورة مرئية لملك يتربع على عرش مملكته. فالقارئ إذن بصدد رواية تسرد تأريخ زعيم وشعب ومملكة. هنا أخرجت العبارة كل الأجناس الروائية الأخرى.. فليس في سير الملوك إلا الملاحم. وهي عبارة تشي بالسلطة والقوة، ونفاذ الأمر. ولكن القارئ سيكتشف أن هذا البطل الملك لم يعلن يوما نفسه ملكا، بل هو عارف حكيم، رجل متواضع صاحب شيمة وحميَّة على شعوب المنطقة وما حولها. باختلاف أديانهم كالنصارى واليهود، وعقائدهم ومذاهبهم كالمتاولة شيعة لبنان، أما كلمة ملك فإنما أطلقها عليه ذلك الرجل النصراني. أما دلالة المضاف إليه في كلمة (الجليل) فتذهب بالقارئ البعيد عن مسرح الحدث، ليسأل عن مغزاها الذي يحيله إلى موسوعة البلدان في القرن الثامن عشر، ليعرف أن ارض فلسطين وما جاورها في سورية ولبنان، تلك الرقعة الواسعة من الأرض الخصبة والمراعي، تقع شرق البحر المتوسط، لتصافح وجهه مدن عريقة كالناصرة وصفد وعكا وحيفا. إن اتجهت جنوبا ألفيت مرج بني عامر، وإن اتجهت غربا وجدت نفسك على ضفاف البحر المتوسط، وإن ارتقيت شمالا وطئت الأراضي اللبنانية الجنوبية. ولا بد لك أن تستنشق هواء بحيرة طبرية العليل. فعتبة العنوان من أهم النصوص المجاورة للنص الرئيس. يختزل طوله وعرضه وعمقه في جملة من بضع كلمات يسند بعضها بعضا.. وكأنها سلة من أطعمة النص يقدمها الكاتب للضيف القارئ، يتناول منها الكثير من الدلالات الفكرية والنفسية والميثالوجية والتأريخية والجغرافية، في تعالق وثيق مع النص. فيضيء قناديل الردهة المؤدية إليه، قبل أن تطأ رجله حرم الرواية. فيحفزه ويشوقه لاستكناه خفاياه وأسراره التي وجهه إليها ذلك العنوان، الذي صيغ بعناية بالغة. بل حرص الكاتب على مرافقته للقارئ في الكثير الكثير من المحطات.. وكأنه أبى إلا أن يجعل من العنوان فانوسا يتلمس به القارئ طريقه حتى آخر حرف في الرواية. * كاتب من البحرين
مشاركة :