هذه معركة سياسية قديمة قدم الولايات المتحدة نفسها تقريبًا. فقد ظلت العاصمة الفيدرالية، واشنطن دي سي، تتمتع بوضع خاص يحرمها من التمثيل في الكونجرس. بعد تصويت الديمقراطيين الذين يسيطرون على مجلس النواب لتحويل مقاطعة كولومبيا إلى الولاية رقم 51 تظل عقبة مجلس الشيوخ مستعصية على الحل. رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تواجه أي رهانات انتخابية فقد عادت الإشارات السياسية إلى الظهور في العاصمة الفيدرالية الأمريكية. إنهم يدعون إلى ما يسمونه «ولاية تمثل شعب العاصمة» في مقاطعة كولومبيا. في الحقيقة، فإن مسألة وضع هذه المنطقة ظلت محل نقاش قديم يعود تاريخه تقريباً إلى نشأتها بموجب الدستور الأمريكي. لقد عادت هذه المسألة لتطفو على السطح وتطرح بكل قوة خلال الأشهر الأخيرة لتصبح وتتحول إلى قضية وطنية. ففي شهر نوفمبر من سنة 2016 صوت السكان بنسبة 85% لصالح تحويل هذه المقاطعة، التي تمثل العاصمة التاريخية والسياسية للولايات المتحدة الأمريكية، إلى الولاية رقم 51 في الاتحاد الفيدرالي الأمريكي الذي يضم في الوقت الراهن 50 ولاية. جاء انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية في نفس تلك السنة ليغطي على نتيجة ذلك غير أن الديمقراطيين الذين فازوا في الانتخابات الرئاسية في شهر نوفمبر 2020 وعادوا إلى البيت الأبيض قد أعادوا إحياء هذا المشروع. يحمل هذا الملف الرقم HR51 وقد تم تمرير قانون تحويل مقاطعة كولومبيا إلى ولاية في 22 أبريل في مجلس النواب من قبل جميع الديمقراطيين المنتخبين، كما حظيت هذه الخطوة بـ«دعم غير مشروط» من الرئيس الديمقراطي الحالي جو بايدن. ينص هذا القرار الذي تم التصويت عليه على تسمية الولاية الجديدة «واشنطن، دوجلاس كومنولث»، من خلال إلحاق اسم أول رئيس أمريكي باسم فريدريك دوجلاس، المفكر الأسود المشهور بنضاله من أجل إلغاء الرق، ومن ثم الاحتفاظ بالأحرف الأولى نفسها في واشنطن العاصمة. على غرار بقية الإصلاحات الديمقراطية الأخرى يواجه مشروع القانون خطر عرقلته في مجلس الشيوخ من قبل الجمهوريين، الذي رفضوه جميعا في مجلس النواب، لكن تعتبر هذه المرة الأولى التي تصل فيها هي إلى هذا الحد. بعد مرور مائتين وعشرين عامًا على تأسيسها، تتمتع مقاطعة كولومبيا بوضع إداري وقانوني منفصل. يحكم العاصمة الأمريكية رئيس البلدية ومجلس المدينة الذي يدير شؤون الحكومة المحلية لكن الكونجرس يحتفظ بالإشراف على شؤون المنطقة، بما في ذلك المسائل المالية. تمكن السكان من التصويت منذ عام 1961 في الانتخابات الرئاسية لكن مقاطعة كولومبيا ليس بها حاكم أو أعضاء في مجلس الشيوخ وممثلها الوحيد في مجلس النواب محروم من حق التصويت. يعترف جي دي ديكي، مؤرخ ومؤلف تاريخ واشنطن دي سي «إمبراطورية الوحل» -Empire of Mud- بأن «المنطقة تمثل تشوها تاريخيا»، وهو يقول في هذا الصدد: «إنها أيضا مفارقة ساخرة إلى حد ما: فقد أنشأها دستور بلد ما على أساس الحق في التمثيل، لكن هذا الدستور نفسه لا يمنح هذا الحق لسكان عاصمتها». يعتبر انتخاب الممثلين الذين يصوتون على ضرائبهم إحدى الحجج الرئيسية لمؤيدي انضمام واشنطن العاصمة إلى ولاية. منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حملت لوحات السيارات هذا الشعار المستوحى من الاستقلال الأمريكي: «لا ضرائب بدون تمثيل». في شهر مارس الماضي، دعا رئيس بلدية المقاطعة موريل بوزر، الذي استمع إليه الكونجرس، البرلمانيين إلى تصحيح هذا الظلم قائلا: «لقد ولدت في واشنطن العاصمة. لقد حرمنا أنا وعائلتي من دون أن يكون ذلك خيارًا من جانبنا، لأجيال عديدة من هذا الحق الأساسي الموعود به لجميع الأمريكيين... إنكار حق التصويت في الهيئة التي تفرض ضرائب عليك يتعارض مع مبادئ مؤسسي هذه الأمة العظيمة. إن حرمان واشنطن منها يعد من آخر مظالم الحقوق المدنية الصارخة في عصرنا». لم يكتف رئيس بلدية المقاطعة موريل بوزر بذلك، بل إنه راح يحث البرلمانيين على «القيام بما فشل المشرعون في تصحيحه على مدى قرنين من الزمان ومنح الديمقراطية الكاملة لسكان المنطقة». أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تعاني من الانقسامات والتجاذبات السياسية الحادة، حيث إن الطرفين الجمهوري والديمقراطي يتعارضان في كل قضية تقريبًا. لذلك فقد قوبل تغيير وضع واشنطن بمعارضة شديدة من الجمهوريين. يجب القول إن رفضهم هو قبل كل شيء سياسي، ذلك أن واشنطن مدينة ذات أغلبية ديمقراطية، حيث فاز جو بايدن بنسبة 93% من الأصوات. لا يعتزم الجمهوريون إعطاء خصومهم مقعدين إضافيين في مجلس الشيوخ المقسم حاليًا إلى نصفين متساويين. تم طرح حجج أخرى، تتراوح بين حقيقة أن المنطقة كانت إما قليلة السكان وإما يوجد فيها عدد كبير جدًا من موظفي الخدمة المدنية، إضافة إلى نقص المصانع أو المزارع. أما مؤيدو تحويل العاصمة واشنطن إلى الولاية الحادية والخمسين فهم يعتبرون أن مقاطعة كولومبيا، التي يبلغ عدد سكانها 711571 نسمة، هي أكثر كثافة سكانية من بعض الولايات مثل وايومنج أو فيرمونت. لكن الوضع الخاص لهذه المنطقة، الذي أنشأه الدستور الأمريكي، قد أفرز تشابكا قانونيا وتاريخيا معقدا. يدعو روبرت ناتلسون، المتخصص في القانون الدستوري وعضو الجمعية الفيدرالية، إلى قراءة حرفية للدستور: «عندما تم إنشاء المقاطعة، تنازلت ولايتا ماريلاند وفيرجينيا المجاورتان عن جزء من أراضيهما لتصبح منطقة العاصمة الفيدرالية وليس لإنشاء ولاية إضافية». بعد التنازل عن الضفة اليمنى البوتوماك لفرجينيا في عام 1846 اقترح المسؤولون المنتخبون الجمهوريون إعادة الجزء الآخر من واشنطن العاصمة إلى ولاية ماريلاند ومن ثم يمكن للسكان التصويت في الانتخابات التشريعية من دون التأثير على التوازن في الكونجرس. يعتبر آخرون أنه قد تم إنشاء واشنطن أساسا من أجل عزل المؤسسات الفيدرالية عن الضغوط المحتملة من الشوارع، كما أن إنشاء ولاية جديدة يمكن أن يضع الحكومة الأمريكية على أرض معادية بدلاً من «محايدة». يتذكر روبرت ناتلسون: «في عام 1783 قرر الكونجرس، المنعقد في فيلادلفيا، إنشاء عاصمة مستقلة بعد أن وجد نفسه مهددا بأعمال شغب من قبل قدامى المحاربين الذين خاضوا حرب الاستقلال وذلك للمطالبة بدفع رواتبهم». أظهرت أعمال الشغب التي اندلعت في يوم 6 يناير 2021، عندما اقتحم حشد من الترامبيين مبنى الكابيتول من جميع أنحاء الولايات المتحدة، أن الوضع الخاص للمنطقة لم يجعلها أقل عرضة للخطر حتى لو كان الحظر المفروض على حمل الأسلحة ساري المفعول ومنع المتظاهرين من التسلح. قالت موريل باوزر ردا على هذا الكلام: «القول إن شعب واشنطن يجب أن يظل محرومًا من حقوقه لحماية مصالح الحكومة الفيدرالية أمر خطير وعفا عليه الزمن ومهين جدا». يبدي الجمهوريون عداء تاريخيا لواشنطن العاصمة وهم يعتبرون أن تحويلها إلى ولاية قائمة الذات إنما يتجاوز مجرد الحسابات الانتخابية. في أذهان الناخبين الجمهوريين كثيرًا ما يتم تصوير العاصمة الفيدرالية على أنها مقر حكومة باهظة الثمن وفاسدة وغير فعالة، ورمز للسلطة غير الديمقراطية التي تمارسها طبقة من كبار المسؤولين. وصلت هذه الكراهية للعاصمة إلى ذروتها في عهد دونالد ترامب، علما أن الرئيس السابق كان قد وعد وقت انتخابه بـ«تجفيف المستنقع»، وهو لقب أطلق على واشنطن. حكم الرئيس ترامب مدة أربع سنوات وقد كان يبدي العداء العلني لهذه المدينة ومؤسسات الدولة الفيدرالية. بلغ هذا العداء ذروته في يونيو 2020، خلال الاحتجاجات التي اندلعت بعد وفاة جورج فلويد. ثم عارض موريل بوزر الرئيس الذي أراد نشر الحرس الوطني ثم الجيش في المنطقة لاستعادة النظام. في بادرة تنم عن كثير من التحدي، رفع شعار «حياة السود مهمة» بأحرف ضخمة على الرصيف أمام البوابات التي أقامها ترامب حول البيت الأبيض. تظل المسألة العرقية أساسية في مدينة لطالما كانت ذات أغلبية من السود، وحيث لا يزال الأمريكيون من أصل إفريقي يمثلون 45% من السكان. يقول كريس مايرز آش، المؤرخ والمؤلف المشارك في كتاب «مدينة الشوكولاتة، تاريخ العرق والديمقراطية في العاصمة»: عندما تم إنشاء المقاطعة الفيدرالية في عام 1801، تم تجاهل مسألة العرق لأن السود لم يصوتوا. ولكن بعد الحرب الأهلية، حصل السود على حق التصويت والمشاركة بشكل مكثف في الانتخابات المحلية، ما أدى إلى تغييرات جذرية. تنتهي هذه التجربة بسرعة. في عام 1871، حُرمت واشنطن من كل التمثيل وأدارها ثلاثة مسؤولين عينهم الكونجرس. استمر هذا الوضع ما يقرب من قرن، حتى وقت الحقوق المدنية في عام 1960، عندما تم تمرير التعديل الثالث والعشرين». من المفارقات أن هذا التعديل الثالث والعشرين يجعل تغيير وضع مقاطعة كولومبيا أكثر صعوبة لأن التعديل الدستوري يتطلب تصويت ثلثي أعضاء الكونجرس أو ولايات الاتحاد. يقول مايرز آش: «المراجعة الدستورية ليست ضرورية لإنشاء ولاية جديدة... لقد قام الكونجرس بالفعل بتقليص حجم المقاطعة في عام 1846 وقد يتخذ قرارا بتقليصها أكثر ولم يتبق سوى منطقة فيدرالية تمسح بضعة أميال مربعة فقط، وهي تشمل البيت الأبيض والكونجرس وتم تحويل الباقي إلى ولاية جديدة». تم تبني هذا الحل من خلال القانون الجديد المعنون (HR51)، الذي يخطط لتحويل العاصمة الفيدرالية، واشنطن دي سي، إلى مجرد محيط صغير يضم البيت الأبيض ومبنى الكابيتول والمحكمة العليا، مع المباني الرسمية الرئيسية ووزارات وسط المدينة، فيما تتحول المنطقة الحضرية المتبقية إلى ولاية «واشنطن دوجلاس كومنولث» الجديدة. يتمثل الحل الآخر المطروح للتغلب على عداء الجمهوريين في إلغاء عدم التوازن السياسي الناجم عن قبول ولاية ذات أغلبية ديمقراطية من خلال منح هذا الوضع في نفس الوقت لبورتوريكو، وهي منطقة أخرى مرتبطة بهذا الوضع الغامض، والتي صوتت أيضًا عن طريق الاستفتاء لصالح الانضمام إلى الاتحاد الفيدرالي». كان آخر قبول في صلب الولايات الجديدة في عام 1959 عندما تحولت المنطقتان غير المتجاورتين، ألاسكا وهاواي، إلى الولايتين الجديدتين، التاسعة والأربعين والخمسين، وانضمتا إلى الاتحاد الفيدرالي. لوفيجارو
مشاركة :