السيرة الذاتية: مقاربة الحد والمفهوم للدكتور أحمد بن علي آل مريع

  • 9/9/2021
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

دراسة نقدية محكمة للدكتور أحمد آل مريع صدرت طبعتها الأولى عن نادي أبها الأدبي سنة 1424/2003 وأمامي طبعتها الثالثة الصادرة في سنة 2010 عن دار (صامد) للنشر والتوزيع تونس، وهي طبعة مزيدة ومنقحة بلغ عدد صفحاتها سبعا وثلاثين ومائتي صفحة من الحجم العادي. تلافى المؤلف الكريم أخطاء الطبعتين السابقتين، وأضاف لها ثلاثة مباحث، ومقابلة أجراها معه الملحق الثقافي بجريدة الرياض، وقدم لهذه الطبعة الدكتور محمد القاضي أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بجامعة منوبة التونسية، الأستاذ بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود. وعلى الرغم من مضي سنوات على صدور هذا الكتاب إلا أنه ما زال من أهم المراجع في بابه. وقد أبان الباحث في مقدمته أنه أضاف كلمة (مقاربة) إلى عنوان هذه الطبعة «حرصا على العلمية ونأيا عن الاستخدامات القطعية». واشتمل الكتاب على ثمانية مباحث. جاء المبحث الأول تحت عنوان (مصطلح السيرة الذاتية: نظرة عامة) فبين المؤلف أن مصطلح السيرة جاء من الفعل (سار) أو المصدر (سير)، ثم تطرق إلى خلاف الباحثين في المصطلح آنتقل من الخاص إلى العام؟ أم من العام إلى الخاص؟ إذ يرى بعض الباحثين أن السيرة كانت تعني ما كتب عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، واتسعوا في مدلولها فأطلقوها على حياة بعض الأشخاص، كسيرة ابن طولون وصلاح الدين والظاهر بيبرس وغيرهم. ويرى المؤلف أن الصحيح أن المعنى انتقل من العام إلى الخاص بدليل أن معاجم اللغة تنص على أن السيرة تعني «التحدث بأحاديث الأوائل وسرد أخبارهم»، ثم استخدمها مؤرخو المغازي والسير. ويستشهد بما نسب إلى أبي إسحاق كعب الأحبار المتوفى سنة 32، من تأليفه كتاب (سيرة الإسكندر وما فيها من العجائب والغرائب) ومثله كتاب (سيرة تُبَّع وأشعاره) المنسوب ليزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري المتوفى سنة 69. ثم تطرق المؤلف إلى التفريق بين السيرة والترجمة، وبين أن السيرة هي اللفظ الذي عرفته المعاجم القديمة، حتى إن المعجم الوسيط حين أورد كلمة (ترجمة) نص على أنها مولدة. وذكر المؤلف أن بعض الباحثين يفرق بين المصطلحين بالطول، فهي ترجمة متى كانت قصيرة، فإذا طالت فهي سيرة. وأضاف أن بعض الباحثين يبقي على مصطلح سيرة وحده لأنه الأقدم استعمالا، وفرارا من ازدواجية المصطلحات. واختتم الفصل بالتفريق بين السيرة الذاتية والسيرة الغيرية. أما المبحث الثاني فكان بعنوان (توصيفات المعاصرين للسيرة الذاتية) وبيَّن فيه المؤلف أن الباحثين اتجهوا إلى توصيف السيرة الذاتية في اتجاهين: الاتجاه الأول: اعتمد أصحابه على متون السير الذاتية التي أخضعوها للدراسة، ولذلك تشعبت تصوراتهم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: يغلب على أصحابه طابع المرونة، فينظرون إلى السيرة الذاتية بوصفها تأريخا للحياة يكتبها أو يمليها صاحبها، ولا شيء بعد ذلك. أي أن تعريفاتهم لا تقدم وصفا واضحا ولا تضع شرطا جماليا أو وظيفيا أو حدا يميزها عن الألوان الأدبية الأخرى المشابهة. القسم الثاني: يشير فيه أصحابه إلى بعض الخصائص الفنية كالامتداد الزمني والاعتماد على مصادر مساعدة كمذكرات الكاتب أو مفكرته، وأضاف بعضهم التسلسل الزمني وانتخاب الأهم من الأحداث، وركز د. إبراهيم السامرائي على ثلاث قضايا هي: الاعتراف والشمول والامتداد الزمني. ويرى الدكتور أحمد أن كل ما تقدم من تعريفات لم يولِ اللغة والأسلوب أو الإطار الفني والشكل الأدبي أي اعتبار. القسم الثالث: يذكر أصحابه شروطا فنية تميز السيرة الذاتية عما يشبهها، ويرى المؤلف هذا التصور متصفا بالتشدد وتضييق النظرة ولا ينبغي الغلو فيه. أما الاتجاه الثاني فاعتمد أصحابه على ميثاق السيرة الذاتية، ويقف على رأس هؤلاء الناقد الفرنسي (فيليب لوجون) الذي وضع حدا للسيرة الذاتية قلما خلت منه دراسة تناولت هذا اللون الأدبي بعده. وهذا الحد هو: «حكْي استعدادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية، وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة». وقد تراجع (لوجون) عن هذا الحد وأعلن أن كل نص يعبر فيه مؤلفه فيه عن حياته وإحساساته، مهما كانت طبيعة العقد المقترح من طرف المؤلف سواء أكان العمل رواية أم قصيدة أم مقالة فلسفية فهو سيرة ذاتية، ما دام قصد فيه الكاتب بشكل ضمني أو صريح إلى رواية حياته أو شيء منها، وعرض أفكاره أو إحساساته. ويرى د. مريع أن (لوجون) فطن إلى خطأ الاعتماد على ما أسماه بالعقد (الأوتوبيوغرافي) فتحول إلى النقيض، وارتمى في غيابة المتون الأدبية التي تعنى بالذات الإنسانية أو تؤرخ لها، أي أنه خرج عن مفهوم السيرة الذاتية إلى مفهوم الذاتية بمدلولها الواسع الفضفاض، وهذا الفضاء الواسع يستعصي على التأطير والتحديد، فليس كل عمل نشم فيه ذاتية صاحبه أو نجد فيه من سيرته وواقعه أو بعض مشاهد من حياته نعده سيرة ذاتية. وفي المبحث الثالث عرض المؤلف لـ (أنواع تلتبس بالسيرة الذاتية) وتختلط على كثير من الدارسين، وهذه الأنواع هي: الاعترافات والذكريات والرسم الذاتي والمذكرات واليوميات والمفكرة اليومية، ويضاف إليها أشكال أخرى هي: المذكرات المضادة (الفوجا الذاتية) والسيرة الجزئية، والرواية والقصة الذاتيتان، والرسائل الشخصية، وأدب النصائح والوصايا، والرحلات. وقد أشار المؤلف إلى ما يميز كل نوع، ونبه إلى بعض الفوارق الجوهرية بينها. إلا أنه أغفل الثلاثة الأخيرة (الرسائل والنصائح والرحلات) عمدا لأن الفكر النقدي والأدبي قد تجاوز مرحلة الخلط بينها وبين السيرة الذاتية. وأوضح المؤلف أن مراده من الرسم الذاتي المقالة الذاتية التصويرية المقفلة التي تقدم فيها الشخصية في جانب واحد خلال مدة زمنية قصيرة، وقد نعتها بالذاتية لأن الكاتب يمتح مادته من الذات، وبالتصويرية لأنه يجنح إلى الوصف والتصوير. وتناول المبحث الرابع (مفهوم السيرة الذاتية) وقد قصد المؤلف تأخير هذا المبحث بعد عرض العلاقة بين السيرة الذاتية والأنواع الملتبسة بها، فالسيرة الذاتية فن أكثر استيعابا ونضجا ووعيا بالذات من الأنواع السابقة، وكلها تدخل في فرع كبير من الأدب يعنى بالشخصيات الإنسانية، ويهتم بالبحث عن الأنا أو الذات. واستطاع البحث بعد هذا التقصي أن يقدم لنا تعريفا جامعا مانعا للسيرة الذاتية نصه: «فِعل لغوي نثري سردي استعادي، يقوم به كاتب واقعي، ويركز فيه على شخصيته وحياته الخاصة بشكل مباشر أو غير مباشر، متوخيا الحق والصدق، شاملا جوانب شخصيته المختلفة، متتبعا خطًّا زمنيا ممتدا بين مرحلتين، يقع بينهما أغلب حياته». والمتأمل في هذا التعريف يدرك أن كل كلمة فيه تُخرج لونا أدبيا، وتمنعه من الالتباس بالسيرة الذاتية. وأكد المؤلف على التفريق بين السيرة الذاتية، وبين القصة أو الرواية الذاتيتين؛ فعلى الناقد ألا يتسرع في الحكم على كاتب بأنه كتب سيرته الذاتية بمجرد أن الروائي أفاد من تقنيات السيرة الذاتية. وعرض المؤلف في المبحث الخامس لـ (الحقيقة والخيال في السيرة الذاتية) وبين بادئ ذي بدء أنه اختار (الحقيقة) بدلا من الصدق لأنها أعم وأشمل، واختار (الخيال) لأنه يدل على مخالفة الحقيقة سواء أكان ذلك متعمدا أم غير متعمد. ثم تساءل: هل السيرة وما شابهها قادرة على تقديم الحقيقة المجردة؟ وكيف يتسنى له ذلك وهو يكتب فنا وإن طالبناه بحيادية المؤرخ؟ وعرض بعد ذلك للعقبات التي تقف دون المؤلف والصدق التام، وهي: النسيان الطبيعي، والتناسي - أو النسيان المتعمد - والرقابة الطبيعية والتكتم؛ أي تجنب الجهر بالسوء، والتواضع المسرف، والاختراع والتزيد، والتحرج من الأصدقاء والمعاصرين. وفي المبحث السادس تحدث المؤلف عن (الصدق وكاتب السيرة الذاتية المسلم) لأن الصدق من متممات الإيمان، لكن المسلم مطالب بالتوازن بين الصدق وبين ستر نفسه وأخيه المسلم. كما يمكنه الحديث عن النفس إن كان صدقا، بشرط ألا يكون تزكية للنفس، وقد يكون مندوبا إذا كان الكاتب يسجله تذكرا لنعم الله وشكرا له. ومع أن المسلم مطالب بتوخي الحقيقة والتأكد من مصدرها؛ إلا أن القارئ الفطن لا يتهاون في التثبت والتحقق مما يقرأ. وفي المبحث السابع الذي عنوانه (الاعتراف) أوضح المؤلف أن الاعتراف مظهر من مظاهر الصراحة، لكنه ارتبط - تحت وطأة النموذج الغربي - بالمخازي والفضائح، فالنقاد الغربيون يرون وجوب التعري التام عند كتابة السيرة. وقد انساق وراءهم عدد من نقادنا العرب دون مراعاة لما نشأت عليه مجتمعاتنا العربية المسلمة من قيم دينية وأخلاق سامية وتقاليد اجتماعية محافظة. ويعلن المؤلف أنه لا يرتاح لمصطلح (الاعتراف) لارتباطه بالمعتقد الكنسي، وبفضل استعمال كلمة (المكاشفة) لأنها مصطلح بكر يوافق خصوصية الإبداع العربي. وخصص مؤلفنا الفصل الثامن وهو الأخير لـ (محاسبة النفس وعتابها) ومع أن محاسبة النفس داخلة ضمن الاعترافات؛ لكنه فضل أن يخصص لها هذا المبحث لغزارة نصوصها في المدونات السيرية التراثية، ولأنها أكثر صدقا وحرارة من المكاشفات، وأكثر خصوصية، إذ لها غاية أخلاقية وإنسانية محددة. وختم الفصل بنموذج لمحاسبة النفس قدمه الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله.

مشاركة :