يوميات الحزن في وداع الشاعر أحمد البهكلي رحمه الله

  • 9/9/2021
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

1 لم تكن رسالة عادية تلك التي أرسلها عبدالرحمن البهكلي يوم الأربعاء ١٧ محرم من عام ١٤٤٣هـ، في تمام الساعة الخامسة وست وثلاثين دقيقة فجراً ،كانت رنتها مختلفة، وتوقيتها مخيفاً، وكلماتها فاجعة، ووقعها أليماً: أنعي إليكم وفاة والدي وحبيبي أحمد بن يحيى البهكلي… ليس والدك وحدك يا عبدالرحمن، وليس حبيبك وحدك يا عبدالرحمن ، بل والدنا وأخونا وحبيبنا جميعاً . توقف نبضي للحظة، وشعرت بفراغ هائل في صدري، وبسهم نافذٍ يخترق القلب مباشرة، وتغشاني وجوم، وعدم فهم، وضعف ، وعجز، وارتباك ، وألم وألم وألم يعصر القلب بلا رحمة ، وانفجرت باكياً، وبين دموعي كنت أردد باستسلام تام : (إنا لله وإنا إليه راجعون، لاحول ولا قوة إلا بالله ) وبين دموعي كنت أراه باسماً، كنت أراه متحدثاً، كنت أراه واقفاً على المنبر يلقي شعره، كنت أراه خلف طاولة الاجتماعات يرأس اجتماعاً، كنت أراه في أرجاء كلية المعلمين، يمر على الأقسام، يتفقد المبنى، يمر على قسم القبول والتسجيل، يزور قسم اللغة العربية، يتصدر خيمة المناسبات، ويقف معنا تحت صهد الشمس أمام مسجد الكلية ، يتحدث ويوجه ويتابع . وتبرز صورته وهو يغادر الكلية في تمام الخامسة عصراً كل ليلة ، حاملاً حقيبته ، يتلفت حوله وكأنما يطمئن على المكان . وكنت أراه في النادي الأدبي يملأ المكان هيبة وحضوراً، وفي بيتنا يزور والدي ويغمرنا بأنسه وحديثه العذب الذي لا يمل ، وفي بيته يستقبلنا فرحا مسرورا ، وفي مقر جمعية حقوق الإنسان يستمع للشكاوى بصدر رحب ، وينصت لساعات لمتحدثين مكلومين ، يشاركهم أساهم ، ويبذل جهده وجاهه وماله ؛ لحل قضاياهم .وكنت أراه في سيارته ونحن نترافق لزيارة مريض، أو للمشاركة في تعزية أو لحضور فرح. هكذا انهالت المواقف والأحداث، ومر شريط الذكريات في لحظة، وتوقف الزمن، ولم أعد أدري أين أنا؟ ولا ماذا حدث؟ وهل حقاً مات أستاذنا وشاعرنا وأديبنا ومعلمنا أحمد البهكلي؟ هل مات حقاً؟ هل أصدق أنه مات؟ هل أصدق أنني لن أراه ثانية يقف أمام بيته لاستقبالنا؟ وحتى هذه اللحظة مازلت أتوقع وأتخيل أنني سأراه، واقفاً مبتسماً أمام باب بيته ، يمدّ يده مسلماً، ومرحّباً كما يفعل في كل مرة. 2 لم أستوعب الأمر تماما ، كانت الرسائل تتوالى إلى جوالي - مخبرة ومعزية - ، وأنا أقول في نفسي : تمهلوا … تمهلوا … ربما لم يمت ، ربما توقف قلبه قليلا ليستريح ، وحتما سينعشونه ، ويعود للحياة من جديد ، لقد مر بأزمات أشد ، ومواقف أصعب ، وفي كل مرة كان ينهض قويا ، ويمضي مشرئبا ، يعانق الحياة ، ويهب الناس الأمل . تمهلوا … تمهلوا … ولكن الحقيقة كانت أقوى ، والموت كان قد أخذ وديعته ومضى ، وأحمد البهكلي بكل جماله وفضله ونبله رحل عن دنيانا مخلفا فراغا هائلا لا يسد . وعلينا أن نتقبل الأمر ، ونصبر ، ونحتسب ، وندعو له بالمغفرة والرحمة ، وبأعالي الجنان. 3 حملت أحزاني ‏واتجهت إلى المطار لألحق بأول رحلة إلى جازان، ولكني للأسف لم أصل إلا الخامسة والنصف عصراً، كان كل شيء قد انتهى، كيف حملوه إلى قبره بكل هذه السرعة؟ كيف طاوعتهم أنفسهم أن يواروه الثرى، كيف تركوه وعادوا؟ كيف حال أولاده الآن؟ كيف هي فجيعتهم وحزنهم وألمهم؟ كيف سأقف أمامهم وحيداً ومنكسراً وحزينا؟ كيف سأواسيهم وأنا بأمسّ الحاجة إلى من يواسيني؟! آه يا أيها الموت ! هلَّا انتظرت قليلاً؟! هلَّا تمهلت يا أيها الموت؟! هلَّا ترفقت بكل هؤلاء المحبين؟! 4 على بابه وقفت خائفاً أتَرَقّب، كان الباب مشرعاً، وقلبي ينزف، وقدماي لا تقويان على حملي، لكني تجاسرت ودخلت، استقبلني عبدالرحمن، فتحت ذراعي واحتضنته، بكى… بكيت … بكينا معا وحطّم الحزن في جوفنا الأضلعا. 5 آه يا أيها الحزن ! هل أنت حقا غمامة تحجب شمس الضحى ؟ كما قال البهكلي: الشعر عندي الحزن إذ يرتمي غمامة تحجب شمس الضحى أم أنت أكبر من ذلك وأشدّ ؟! وها إن الحزن يحاصرنا يا سيدي من كل جانب، ويرتمي بكل ثقله وقسوته علينا، ليس غمامة كما قلت، وإنما ظلمة داكنة تحجب كل الكون، وتسكن أرواحنا المتعبة . لقد ترك رحيلك في القلب فراغاً هائلاً لا يشبه أي فراغ، فراغاً لا يمكن وصفه، لا يمكن لمسه، لكني أحسه كثقب غائر في القلب لا يمّحي. 6 سأكتب عنك حديثاً يطول سأنشر بعض رحيقك بعض عطاياك بعض أوراقك المترعات بورد الحقول سأكتب في أول السطر لا .. لم تمت أنت ما زلت حياً يهدهدنا شعرك العبقري ويزهو ندياً بكل الفصول وفكرك يملأ كل العقول وأعمالك الخيّراتُ ترفرف في الأفْق توزّع روحك عطراً زكياً وتبقيك حياً وتنقش في عمرنا أثراً خالداً لا يزول. *** سأكتبُ كيف هطلت على قحطنا مطراً أخضرَ وكيف تربّعتَ في أفقنا قمراً نيّرا وكيف رسمت لخطواتنا دربها المزهرا وكيف صبرت على قسوة الجاحدين وأهديتهم قلبك الأكبرَ وكيف مضيتَ وحيداً وذكرك يشعل في ليلنا أنجما ويركض في دمنا أنهرا *** سأكتب في آخر السطر عن حزننا عن وجع ينخر القلب عن أدمع لا تجف وعن أنفسٍ غرقت في الذهول. سأكتب عن وطنٍ مترع بالأسى قد كساه الذبول لأنك يا سيدي غبت عن دوحه فغاب اللسان الفصيح وجف الكلام المليح ولم يَعُدِ الآن يدركُ ماذا يقول؟

مشاركة :