- أهناك أجمل من المطر؟ مشطتَ شعركَ بأصابعك، مَسدتَ شاربـيك. غادرتَ الغرفة، أقفلت الباب، علّقتَ المفتاح في اللوح العتـيق. لم تنظر إلى المرآة التي صادفتك في الصالة. نـزلتَ الدرج، لم تكن بحاجة إلى فتح الباب، فقد كان نصف مفتوح. - كم بهية رائحة الأرض بعد المطر!! زررت (الزر) العلوي لستـرتك، وضعت يديك في جيبـي البنطلون الوحيد الذي جلبته معك. - خذ الجوزي أيضاً، قد تحتاج إليه. - هذا يكفي، لن أتأخر كثيـراً. سرتَ خطوات في الوحل تقارب عدد أصابع قدميك. وصلت إلى رصيف الشارع المزدان بالكاشي الأصفر والأبـيض.. تأملت الجبل الشاهق الصامت، سحبت نفساً عميقاً من الهواء المعطر بالمطر: - اااه يا للروعة!! كانت أضواء الشارع باسمة، وحبّات المطر تتـراقص حولها والسوق غافياً... كنتَ فرحاً بقطرات المطر التي تقبل شعرك... واصلت المسيـر إلى رأس السوق، عبـرت إلى الجهة الثانـية وعدت أدراجك، ثمة سيارة سوداء كانت تقطع الشارع... وقفت قرب ذلك المقهـى الصغيـر - ليكن خفيفاً. ارتشفت قدح ماء، وجلست على الكرسي الخشبـي الهزيل في الخارج. تجاوزت الخيمة المنصوبة فوق رأسك، حمتكَ من المطر الذي تحبه. مددت ساقيك بكل حرية. - الله بالخيـر. - الله بالخيـر. قبل أن تلامس أصابعك الملعقة الصغيـرة، وقفت تلك السيارة السوداء قبالتك، رفعتَ شايك وارتشفتَ شيئاً منه. - يا لكَ من محب للشاي!! - ولكِ أيضاً يا حلوتـي... - اشرب، اشرب، قبل أن يبـرد، وكفى كلاماً معسولاً - وليبـرد... ستسخنـينه ثانـية يا خفيفة الظل. - يا لحبكَ هذا!! ابتسمتَ، رفعتَ رأسك، كان الرجل الجالس في السيارة يحدق فيكَ بغضب معلن. أعطيتَ لصاحب المقهـى مائة فلس وقلت له: - ألا تأتـينـي بشاي آخر من فضلك؟ - بكل سرور تجاهلته، لم تنظر إلى جهته، إلاّ أنه لم يقدر أن يتمالك نفسه، وبانفعال صارخ خرج من السيارة وقصدكَ، قال لك بصوت جاف: - على من تضحك وضع رجل المقهـى شايك فوق الطبلة الحديدية ذات الأقدام الثلاث، بهدوء أدرت الملعقة الصغيـرة. نفد صبـره: - اخرس أنت؟ ألا تسمعنـي. أخرجت الملعقة من استكان الشاي ووضعتها في الطبق، قلت له بهدوء: - بأي حق تسألنـي هذا السؤال؟ بدت عيناه وكأنهما ستخرجان من محجريهما، مدَ يده نحوك وقال: - لأنك تضحك عليّ. ببـرود أعصاب قلت له: - أنا.. أضـ.. حَ.. كُ عليك؟ - أجل... أجل. - وهل أعرفك لكي أضحك عليك؟ - وهل هناك في هذه المدينة من لا يعرفنـي؟ - لكننـي لست من هذه المدينة. حينما قلت له ذلك، قلّ حماسه، وأصبح في شكٍ من أمرك. بصوت يكتنفه الخنوع قال لك: - من أية مدينة أنت إذاً؟ بابتسامة قلت له: - لا تملك حق هذا السؤال أيضاً... أليس كذلك؟ -......! مددت يدك إلى جيبك، أخرجت علبة سكائر، أشعلت واحدة، ثم مددت العلبة نحوه. - لا أدخن هذه النوعية. صمت قليلاً وأردف قائلاً: - أرجو ألا أكون قد أزعجتك. نظرت إلى وجهه الأسمر وضحكت ثانـية من الأعماق، ولم تجبه. شربت شاياً آخر، ولم تكن لديك فكة، لتعطيها لصاحب المقهـى، قلت له: - بقي لك درهم عندي. - ليكن الشاي الأخيـر على حسابـي. - فلتعش. نهضت، مغادراً.... وصلت إلى جثث التلفونات المتـراصة، وددت أن تسمع صوت أطفالك، لكنك تذكرت أن دراهمك قد نفدت.. مرة أخرى ضحكت، رفعت رأسك إلى السماء القاتمة وكنت تبتسم من القلب، لهواء المطر البارد... - حقاً المطر جميل!!
مشاركة :