الوطن يلون لوحات الفنان اليمني

  • 10/26/2015
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

انشغل المشهد التشكيلي منذ بواكير تكونه في سبعينات القرن الماضي بالفضاء المكاني بوصفه علامة فارقة في مسيرة الفعل البصري الجمالي العربي، ويحمل من التكوينات ما يجعل الفنان اليمني أمام فضاء غني لا ينضب، وقابل للتحول والتبدل في سياق التجارب المتنوعة والمتفاوت الذي يرسم معالم الفعل التشكيلي طوال الخمسة عقود الماضية. لم تخرج التجربة التشكيلية من الفضاء الجمالي للجغرافيا والبيئة اليمنية، فلا تكاد تخلو تجربة فنية في تاريخ التشكيل اليمني لم تتوقف عند المكان وتقدم فيه قراءاتها ورؤاها، سواء في الأعمال الناجزة المقدمة ضمن مشاريع متكاملة، أو في الأعمال التجريبية الأكاديمية التي لا تنفصل بشكل أو بآخر عن منجر الفنان، ولا يمكن حذفها من سيرة اللوحة لديه. تفتح هذه العلامة جملة من التساؤلات على الفعل الثقافي البصري في اليمن، أهمها: ما الخصوصية التي يتشكل فيها المكان اليمني ليكون مصدراً وملهماً أول لكل التجارب التشكيلية؟، وما هي العلاقة التي نسجها الفنان مع أرضه بوصفها فضاءً جغرافياً يحمل مجموعة من التكوينات العالية الخصوصية؟، وهل خدم ذلك الانشغال الحركة التشكيلية اليمنية أم جعلها تراوح مكانها ولا تلحق الحراك التشكيلي العربي الرائد والعالمي السابق؟ لا يمكن العثور على إجابات في هذا السياق إلا عند الوقوف على التجارب البارزة في التشكيل اليمني، وتتبع مسيرة الطبيعة والمكان في أعمالهم، وقبل ذلك البحث في تاريخ تشكل الحراك الفني في اليمن، إذ تعد مرحلة التأسيس باباً واسعاً على بحث علاقة الفنان اليمني بمكانه، فلا يمكن الحديث عن تجارب اليوم من دون الحديث عن التجارب الرائدة وما شكلته من علامات ومدارس لتجارب تلتها، سواء في مسار العمل الفني، أو تقنيات البناء التشكيلي، أو غيرها من السمات. يكشف تاريخ التشكيل العربي أن الحراك التشكيلي بدأ في اليمن في سبعينات القرن الماضي، عندما عادت الكثير من التجارب الفنية من المغترب بعد أن أكملت دراستها في الفنون الجميلة، حيث فتحت المدرسة الروسية بابها أمام الكثير من الفنانين اليمنيين في تلك الفترة، فتخرج فيها رواد الحراك التشكيلي الذين قادوا الفعل التشكيلي اليمني. وظهر الشكل الأول لهذا الفعل بعد أن فتح الفنان فؤاد الفتيح أول صالة عرض في صنعاء، شكلت في تلك الفترة مركزاً مهماً في الفعل الفني لليمن، وأعقب ذلك تأسيس جمعية التشكيليين التي ضمت في حينها خمسة وثلاثين فناناً شكلوا أساس الحراك التشكيلي في اليمن. بالرجوع إلى تلك الأسماء وتتبع تجاربها يجد الباحث أنه أمام أسماء تشكيلية يمكن من خلالها قراءة الفعل البصري الفني في اليمن، إذ تجمع تلك المرحلة أسماء مثل الفنان هاشم علي، وفؤاد الفتيح، وعبد الجبار نعمان، وجميلة قميم، وعبيدة حذيفي، وعبد الجليل سرور، وعبد العزيز الزبيري، وغيرها من الأسماء التشكيلية. تتجلى صورة المكان وحضوره الطاغي في اللوحة اليمنية عبر المنجز التشكيلي الذي قدمته مجمل تلك الأسماء الرائدة، إذ يجد العائد إلى تجربة فنان بارز في الحراك التشكيلي مثل فؤاد الفتيح أنه أمام اشتغالات خصبة على المكان اليمني، حيث توقف الفتيح عند المكان بصيغته المعمارية القائمة في البيوت اليمنية القديمة المميزة، فحولها إلى مساحات بصرية غنية على صعيد اللون والتكوين، واستفاد من الزخارف الكثيفة التي يتشكل فيها البناء اليمني، ليبني بذلك جملة من الأعمال التي يماهي فيها بين المرأة اليمنية والبيوت القديمة بأسلوب تعبيري واقعي، شكل له هويته البصري في الفعل التشكيلي العربي. ويقف الباحث أمام أعمال فاتنة للبيئة اليمنية قدمها الفنان الراحل هاشم علي، على الرغم من أن تجربته تشكلت في سياق مغاير عن المكان وراحت تتراكم في سياق البحث في الشكل البشري وتتبع تحولاته وسيرته البسيطة، عبر التقاطه شخصيات من الريف اليمن، ورسم الهوية البصرية لها في تجربة تعبيرية حساسة تستند إلى اللون والحركة في التكوين. الأمر ذاته يمكن العثور عليه في تجربة الفنان عبد الجبار نعمان، فاشتغاله التشكيلي لم يخرج عن المكان ولم يبتعد عنه بضربة فرشاة واحدة، إذ ظل رهين المكان وجمالياته حتى وهو يشتغل بورتيرهات النساء التي قدم فيها جانباً من تجربته، إذ انزاح إلى بورتريهات النساء الشعبيات اللواتي يحملن المكان وهويته في أثوابهن وفي الفضاء الذي يعشن فيه. ولا يرتبط هذا الاشتغال على المكان في التجارب الرائدة وحسب وإنما يمتد ليصل إلى التجربة التشكيلية اليمنية اليوم، ففي دراسة للدكتور حاتم الصكر يقول تحت عنوان المشهد التشكيلي اليمني المعاصر - قراءات وتوقعات: المتابع يستطيع رصد بعض الأسلوبيات الواضحة في أعمال الفنانين اليمنيين من أبرزها عكوفهم على استلهام البيئة والمحيط، والطبيعة اليمنية متنوعة الأجواء جبالاً وودياناً وبحاراً، وبعض جماليات البيت اليمني القديم (الصنعاني خاصة) بتفاصيله لا سيما الأبواب والمطارق والشبابيك والزجاج الملون (القمريات) والجدران وكذلك مظاهر الريف ومدرجاته الزراعية وذرى الجبال المتناهية في الارتفاع فضلاً عن الظواهر الثقافية الممثلة في الثياب والخناجر والوشم والحلي والعباءات والنقوش والرقصات وغيرها. لذلك يمكن التساؤل عن صورة المكان في الرؤية التشكيلية اليمنية، فحضوره بارز ولا يمكن القفز عنه وتجاهله، وإذ لا يمكن تقديم رؤى جازمة في هذه الملمح، فإن المساحة مشرعة على تلمس الظواهر التي قادت إلى العلاقة الكبيرة بين الفنان اليمني والمكان. يمكن القول إن المكان في الذهنية البصرية اليمنية تشكل ضمن عدة مسارات وتحولات، أولها أن المدرسة الروسية في التشكيل التي تأثر بها الكثير من رواد الفنون في اليمن، تعنى كثيراً بالمكان، وتضع الطبيعة والفضاء الجغرافي محوراً جمالياً ينبغي على الطالب إتقان فنون بناءئه ورسم تحولاته. أثر ذلك بعد عودة الخريجين في تبني المكان والعمل عليه من جديد، مكملين ما بدأوه في المدارس الروسية، فلم يعد المكان هو الهاجس أو الفكرة التي تعتمل في رأس الفنان بقدر ما صارت هو الفضاء الجمالي الأول الذي تعلم الفنان تقنيات صياغته وتقديمه في أعمال واقعية وتعبيرية. إلى جانب ذلك حمل المكان اليمني من الجماليات ما يجعله جاذباً للفنان، بما فيه من التكوينات المعمارية، والطبيعة الجبلية الغنية، فالبيت اليمني التراثي وحده حكاية جمالية تروي تاريخ المكان والعلاقات الجمالية التي انصبت في اليمن عبر قرون من التجارة والحرب والمسيرة الإنسانية. مقابل ذلك يمكن الالتفات إلى واحدة من العلامات التي شكلت علاقة الفنان اليمني مع مكانه والمتمثلة في الهوية، فحتى التجارب المجددة واللاحقة للرواد راحت تشتغل على المكان، حيث وجد الفنان اليمني في المكان الفضاء الخاص الذي يمكنه أن ينقل هويته ويؤصل تجربته بجعلها مشدودة إلى جذور واضحة المعالم. يؤكد ذلك حرص الفنان اليمني على الهوية اليمنية البصرية من خلال اشتغاله كذلك في الكثير من التجارب الفنية على الناس الشعبيين بوجوههم ولباسهم التقليدي، ومختلف العادات التي يمارسها المجتمع اليمني في الأرياف، وكأنه أراد أن يصدر هويته عبر اللوحة ويطرح قضاياه من خلال الإنسان الريفي البسيط الذي تحول مع تجارب مجددة إلى صورة مكثفة للوطن بأكمله. ليس ذلك وحسب فالهوية تظل تتمظهر في تجارب الفنانين اليمنيين لتأخذ سياقاً متطرفاً في بعض الأحيان كما فعل الفنان مظهر نزار الذي ظل مهجوساً بسحر الشرق والهوية العربية إلى درجة أنه قدم في معارضه الأولى أعمالاً مشغولة بتقنيات الكولاج مطعمة بقطع ذهبية حقيقية، في إشارة واضحة نحو الهوية التي ينتمي إليها، الهوية التي تنتمي لبلاد الشمس وتتمركز جذورها في بلاده اليوم اليمن. لذلك ليس من باب المغالاة القول إن المكان هو الركيزة التي ينطلق منها الفنان اليمني في مختلف اشتغالاته الجمالية، ولا يمكن له الانسلاخ عنه مهما حاول، وجرب وخرج، فالمكان في ثقافته هو الرديف الوجداني له وحضوره بوصفه فناناً.

مشاركة :