يكمن تأثير الكلمة المبدعة في دلالتها الصوتية، حيث تتجلى مادة الموضوع في الكلمة التي يعبر عنه من خلالها، فموضوع لطيف يؤدى بصوت لطيف، القصيدة تعتمد على الجرس الموسيقي، ومن ذلك قافيتها، فإذا وفق الشاعر في ختام البيت الشعري بصوت ملائم؛ فإن ذلك يزيد في تأثير القصيدة ووهجها. قصيدة ملائكة الرحمة للشاعر إبراهيم طوقان : بِيضُ الحَمَائِـمِ حَسْبُهُنَّهْ أَنِّي أُرَدِّدُ سَجْعَهُنَّـهْ رمز السلامة والوداعة منذ بدأ الخلق هنه في كُلِّ رَوضٍ فوق دَانيَة القُطُوفِ لهُنَّ أنَّهْ وَتَخَالُهنَ بلَا رُؤُوسٍ حِينَ يُقْبلُ لَيْلُهُنَّهْ فَإذَا صَلَاهُنَّ الهَجيرُ هَبَبْنَ نَحْوَ غَدِيرِهِنَّه فَإذَا وَقَعْنَ عَلَى الغَدِيرِ تَرَتَّبَتْ أَسْرابُهُنَّه كُـلٌّ تُقَبِّـلُ رَسْمَهَـا في المَـــاءِ سَاعَـــةَ شُرْبهِنَّـهْ يَقَـعَ الرَّشَـاشُ إذَا انْتَفَضْنَ لآلِئَاً لِرُؤُوسِهِنَّـهْ تُنْبيكَ أَجْنِحَةٌ تُصَفِّـقُ كَيْفَ كَانَ سُرُورُهُنَّـهْ الروضُ كالمُستشـفيــــــاتِ دَواؤُها إيْناسُهُنَّـهْ مَهْلاً فعندي فارقٌ بين الحَمامِ وبيْنَهُنَّهْ أمَّا جميلُ المُحْسِناتِ ففي النهارِ وفي الدُّجَنَّهْ وَيطِرْنَ بَعْدَ الإبْتِرادِ إلى الغُصُونِ مُهُودِهِنَّهْ تُنْبيكَ أَجْنحةٌ تصفِّقُ كيفَ كان سُرُورُهُنَّه وتَميلُ نَشْوانًا- ولَا خَمْرٌ- بعذْبِ هديلِهِنَّهْ كَمْ هِجْنَـنِي فرَوَيْـتُ عَنْهُنَّ الهَدِيلَ … فَدَيْتُهُنَّهْ المُحْسِنَـاتُ إلى المريـضِ غَدَوْنَ أشباهاً لَهُنَّـهْ الروضُ كالمُستشـفيـــــــاتِ دَواؤُها إيْناسُهُنَّـهْ مـا الكَهْرَبـــــــاءُ وطِبُّـهَــا بأَجَلَّ من نَظَرَاتِهِنَّـهْ يَشْفـــــي العليـلَ عناؤُهُـــنَّ وعَطْفُــهُــــنَّ ولُطْفُهُنَّـــــهْ مُـرُّ الدَّواءِ بفيكَ حُلْوٌ من عُذوبَةِ نُطْقِهِنَّـهْ مَهْـلاً فعندي فـارِقٌ بيـنَ الحَمَــــامِ وبَيْنَهُنَّـــــهْ أمّا جَمِيـلُ المُحْسِنَـاتِ ففي النَّهَارِ وفي الدّجَنَّـهْ هذه القصيدة تصف الممرضات اللاتي يسهرن على راحة المريض، اختار الشاعر أسلوبا رقيقا متناغما مع الموضوع، من ناحية المعنى والصورة، والصوت، وما نتحدث عنه في هذا المقام الصوت وبالتحديد الوصل وهو: «ما جاء بعد الروي من حرف مد أشبعت به حركة الروي أو هاء وليت الروي(1)» بمعنى، الروي هو الحرف الأخير في القصيدة والوصل يأتي بعده زيادة إما حرف مد (أ و ي) أو هاء، فالوصل في نهاية البيت السابق هو الهاء الذي جاء بعد حرف الروي وهو النون. وهذه الهاء كما أنها زيادة في المبنى الحرفي الموسيقي، فهي زيادة في المعنى لها غرض بلاغي، يقول ابن جني: «الأصوات تابعة للمعاني ، فمتى قويت قويت ومتى ضعفت ضعفت، ويكفيك من ذلك قولهم: قطع وقطّع وكسر وكسّر زادوا في الصوت لزيادة المعنى واقتصدوا فيه لاقتصادهم فيه (2)» وقاعدة (زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى) أغلبية وليست كلية، فمتى أمكن تأويل الزيادة التي طرأت على الكلمة الأصلية على أنها أقوى؛ يعمل بهذه القاعدة، فكسّر أبلغ وأقوى من كسر، ولكن، قد تكون الزيادة للتصغير فرجُل تصغيرها رُجَيْل. الهاء، هاء الوصل، لها دلالات صوتية فـ «إذا لفظ صوتها مخففا مرققا مطموس الاهتزازات، أوحى بأرق العواطف الإنسانية وأملكها للنفس، فيكون مخرجه أيضا من في أول الحلق، أقرب مايكون من جوف الصدر(3)» في هذه القصيدة تعددت دلالات العواطف الإنسانية الرقيقة لهاء الوصل بتعدد استخدامها في ختام الأبيات، ففي جل أبيات القصيدة جاءت بعد الضمير (هن) الذي أتى تارة منفصل وتارة متصل ، وجاءت تاء مربوطة ساكنة، وجاءت تاء-أيضا- في كلمة منحوتة. هاء الوصل بعد الضمير (هن) جاءت هاء الوصل في جل القصيدة بعد الضمير المتصل هن ، وقد أثنى الشاعر وتغزل بهذا الأسلوب ، فنلاحظ أن الشاعر يثني على مهنية الممرضات في ختام عدة أبيات، حيث وصف عواطفهن الرقيقة مع المريض وحبهن للمهنة، والتنظيم، فقد شبههن بالحمائم، وقد كانت هذه العواطف الرقيقة أكثر خصوصية بهن لكون الضمير هن متصل: (ليلهن، أسرابهنه، سرورهنه) وقد تكررت كلمة إيناسهنه، وكلمة لطفهنه مرتين تأكيدا لهذه العواطف ، فكانت الهاء ختاما ملائما لهذه الأبيات. كما تغزل الشاعر بصوتهن (سجعهنه، هديلهنه،شدوهنه)، وتغزل بجمالهن حيث وصف انعكاس صورهن في الماء (ساعة شربهنه) وجعل رشاش الماء لآلئا (لرؤوسهنه)، وبمزيد من التشبيب فقد وهب الشاعر نفسه فداء لهن حيث كرر كلمة(فديتهن). وفي أحيان أمتزج الغزل والثناء: (نظراتهنه) ففيها ثناء على التفاني في متابعة المريض، وفيها وصف لجمال النظرات، وكذلك كلمة (نطقهنه) فيها تغزل بعذوبة النطق، وفيها ثناء على انتقائهن للكلمات التي تريح المريض ، وكلمة(مهودهنه) فهو وصف لوداعتهن وثناء على عنايتهن الفائقة بالمريض. وقد جاءت هاء الوصل بعد الضمير هن المنفصل في البيت الثاني تأكيدا على معاني الوداعة والسلامة: رمز السلامة والوداعة منذ بدأ الخلق هنه تاء مربوطة ختم البيت الثالث بهاء،تاء مربوطة ساكنة في كلمة (أنَّه) فكانت الهاء صوتا ذا دلالة أنثوية تثير العاطفة نحو هذا الأنين . النحت(4) نلاحظ أن الشاعر وضع للقصيدة مفصلين: مفصل ناعم ومفصل أنعم. المفصل الناعم في منتصف القصيدة ،البيت الثالث عشر، والبيت الرابع عشر، يفرق فيه بين الحمائم والممرضات المحسنات: مهلا فعندي فارق بين الحمام وبينهنه أما جميل المحسنات ففي النهار وفي الدُّجَنَّه فالهاء في نهاية بينهنه صوت ملائم للتفريق بين لطيفين، وكلمة الدُّجَنَّه نحت من كلمتين: الدجى، والجنة، شكلت معنى فذا يدل على الليل الذي يتكلل بنعيم هؤلاء المحسنات وهو ما يميزهن عن الحمائم التي لا تشدو إلا في النهار، فالهاء في ختام هذه الكلمة المنحوتة الفذة متناغم. أما المفصل الأنعم في نهاية القصيدة، فقد جاءت البيتين: البيت الرابع والعشرين، والبيت السادس والعشرين، تكرارا للبيتين السابقين، وكان المفصل الختامي أنعم بإظهار المعنى الذي كان مضمرا في المفصل الأول، وهو انقطاع الحمائم عن الشدو في الدجى والذي ستكمل إيقاعه المحسنات في البيت الخامس والعشرين: فلربما انقطع الحمائم في الدجى عن شدوهنه وكانت الهاء في نهاية(شدوهنه) تمثل الصوت اللطيف لدى الحمائم التي ستكمل مسيرته المحسنات عناية بالمرضى ليلا. الهوامش 1 محمود مصطفى : أهدى سبيل إلى علمي الخليل العروض والقافية، شرح وتحقيق سعيد محمد اللحام، عالم الكتاب، بيروت، 1417هـ، ص114. 2 عثمان بن جني: المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها،ج2، ط2، تحقيق علي النجدي ناصف، عبد الفتاح إسماعيل شبيلي، دار سزكين للطباعة والنشر، 1406هـ. ص210. 3 حسن عباس: خصائص الحروف العربية ومعانيها، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1998م، ص193. 4 يعرف الدكتور نهاد الموسى النحت: هو بناء كلمة جديدة من كلمتين أو أكثر أو من جملة، بحيث تكون الكلمتان أو الكلمات متباينة في المعنى والصورة، وبحيث تكون الكلمة الجديدة آخِذة منها جميعًا بحظ في اللفظ، دالَّة عليها جميعًا في المعنى، نهاد الموسى: النحت في اللغة العربية، ط1، دار العلوم للطباعة والنشر سنة 1405هـ. ص67.
مشاركة :