الأرجح أن يقر الدستور الذي اعدته لجنة الخمسين في استفتاء منتظر قبل نهاية كانون الأول (ديسمبر). فليس في الذاكرة استفتاء انتهى برفض ما عُرض فيه على الجمهور. بهذه البساطة يمكن توقع نتيجة الاستفتاء على الدستور الذي اعدته لجنة الخمسين، وقد أثارت مسودته واللجنة الكثير من النقاش حول الوجهة التي تمضي مصر اليها. فالاستقرار المؤسسي المصري الذي ينال دائماً الإشادة والتقريظ، يبدو وقد فارق الحياة مع اصرار كل من يتسنم كرسي الرئاسة على صوغ دستور جديد، يخلد فيه نمط السلطة الذي يرغب في ممارسته وفي توريثه الى الأجيال المقبلة من المصريين. وبعد «الإعلان الدستوري» الذي وضعه المجلس العسكري فور تنحي حسني مبارك في شباط (فبراير) 2011، جاء دستور 2012 ليشكل صفقة مثلثة بين «الإخوان المسلمين» والتيارات السلفية والجيش. المشروع الذي انتهت لجنة الخمسين من دراسته قبل ايام، يمثل مرآة للتوازنات السياسية التي اعقبت إطاحة الرئيس محمد مرسي وعودة الجيش الى السلطة. تقتضي الشكليات الديموقراطية قيام سلطات ثلاث منفصلة، ينظم العلاقات في ما بينها ميثاق وطني يضمن في الوقت ذاته حقوق المواطنين ويحدد واجباتهم. ويمثل الميثاق الذي يتحول مواد وبنوداً دستورية، مضمون السلطة والغلبة الاجتماعية- السياسية. أمران تكشفهما سهولة التخلص من الدساتير في مصر في الأعوام الثلاثة الماضية، والإصرار في الوقت ذاته على وضع دساتير جديدة مع كل تغيير في رأس السلطة. الأول، ان حالة من السيولة الاجتماعية- السياسية تسيطر على البلاد. فليس تفصيلاً ان تشهد كل جلسات لجنة الخمسين وتلك التي سبقتها اثناء حكم مرسي جدالات صاخبة حول مواد ميثاقية من نوع مرجعية التشريع والهوية الدينية ودور الجيش والقضاء. يعلن ذلك ان قوى الشارع المصري لم تتعرف بعد الى أحجامها الحقيقية، بالتالي ترجمة الأحجام هذه في مواد الدستور. الأمر الثاني ان صراعاً ضارياً يدور بين مؤسسات الدولة التقليدية الساعية الى البقاء خارج اطار المحاسبة والمساءلة القانونية التي يقتضيها بناء دولة الحق، وبين التيارات التي تعتبر نفسها مسؤولة عن ثورتي 25 يناير و30 يونيو، بوجوهها المدنية والديموقراطية والحقوقية. فاستثناء الجيش لنفسه من الرقابة وتكريسه ما كان سائداً منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر، بعدم عرض موازنة القوات المسلحة على الهيئة التشريعية وما ينجم عن ذلك من تفلته هو والشركات الاقتصادية التي يسيطر عليها من كل رقابة، أغريا مؤسسة القضاء بالمطالبة بمعاملة مشابهة تضع القضاء فوق السلطات الأخرى. غني عن البيان أن زيادة الراغبين في الاستثناء الممنوح للجيش تقوض مبدأ «التوازن والمراقبة» الذي يتعين على كل من السلطات العمل به في وجه السلطات الأخرى. فالقضاء يفترض ان يراقب عمل المشرّعين وهؤلاء عمل الحكومة وهذه عمل القضاء. لكن كسر هذه الحلقة في مكان ما يحول دون سريان تيار الرقابة المتبادلة عبر باقي المؤسسات ويبرر هذه الدعوة الى استثنائها. يضاف الى ذلك، أن مسودة الدستور التي حذفت حصص فئات العمال والفلاحين، تضع علامات استفهام كبيرة حول النظام الاقتصادي المصري. النقاشات شهدت هجوماً حقيقياً من مجموعات رجال الأعمال ورؤساء الغرف الاقتصادية لفرض الاقتصاد الحر بذريعة تحريك عجلة الإنتاج وإيجاد فرص عمل واستثمار واستعادة قطاع السياحة موقعه كمصدر دخل رئيس للبلاد، في مقابل رفض كل محاولات ربط الإنتاج بالأجر والذي سعى اليه ممثلو قطاعات العمال المطالبين بإدخال مفهوم العدالة الاجتماعية. وفي الوقت الذي حاولت وسائل الإعلام الرسمية تطويق آثار الفيديو المسرَّب للفريق عبد الفتاح السيسي الذي يؤكد فيه أهمية رفع الدعم عن السلع الاستهلاكية، واعتبار الإعلام المصري ان الفيديو يرمي الى الإساءة الى السيسي وتأليب القطاعات الشعبية عليه، لمنعه من ترشيح نفسه الى الانتخابات الرئاسية، يسود اعتقاد بأن الجيش وكبار رجال الأعمال ابرموا اتفاقاً يضمن مصالح الجانبين، فيترك الجيش وفروعه الاقتصادية من دون رقابة في مقابل غض النظر عن نشاطات الاحتكارات الكبرى. كل ذلك يترك انطباعاً بمحاولة إعادة تأسيس جمهورية العسكر. لكنها تأتي في طبعتها الرابعة، بعد عبد الناصر والسادات ومبارك، خالية من اللون والروح اللذين بررا وجودها من الخمسينات الى الثمانينات. وليس من المبالغة في شيء القول ان اعادة التأسيس هذه تبدأ من حيث انتهى مبارك، أي من دون مشروع سياسي ورؤية اجتماعية- اقتصادية، وأن جل ما يميّز الطبعة هذه هو غياب مشروع التوريث الذي اثار القلق الشديد في مؤسسات الدولة المصرية أواخر عهد مبارك. وكأن ما من شيء تغيّر منذ ستين عاماً حتى ليجوز تكرار الصيغة ذاتها من الحكم العسكري المتحالف حيناً مع رأس المال والمتناقض معه في حين آخر، الى ما لا نهاية. المقاربة هذه تخفي إصراراً على إعادة إنتاج المقدمات ذاتها التي انتجت ثورة 25 يناير، فيما تظهر كل إعادة اقل خيالاً وإبداعاً من سابقاتها.
مشاركة :