يعول الكثير من محبي السينما على الأفلام المستقلة في مفاجأتهم بأشكال وأفكار مختلفة عما هو سائد، وذلك لأنها دائماً الحقل الأكبر للتجريب الفني، بعيداً عن الحسابات التجارية للأفلام ذات الإنتاج الكبير لأستوديوهات هوليوود الكبرى التي لا تود المخاطرة بالربح حتى لو كان هذا على حساب الفن الذي تنتجه. وقد يكون أحد أهم المفاجآت الممتعة لهذا العام، الفيلم الأميركي "المجرب-Experimenter". يعرض الفيلم السيرة الذاتية لأحد أشهر أعلام علم النفس الاجتماعي ستانلي ميلغرام -بيتر سارسجارد-، ويستخدم التجربة التي اشتهر بها ميلغرام، والتي تدرس آليات الطاعة والانصياع للسلطة، كمدخل لهذه الشخصية. يبدأ الفيلم باستقبال المشرف على التجربة -جون بالادينو- لشخصين من المشاركين فيها -أنثوني إدواردز وجيم غافيغان- ويمنح كلاً منهما مبلغاً مالياً كمكافأة على المشاركة، ويخبرهما بأن التجربة تهدف لقياس أثر العقاب في التعلم ولذلك فهو يرغب في أن يجري قرعة ليعرف من سيقوم بدور المعلم والمتعلم. يختار إدواردز ورقة فيظهر فيها بأنه المعلم ويقول له المشرف بأن لديه عبارات معينة سيرددها على المتعلم، ثم سيعيد المقطع الأول من العبارة وسيعطي المتعلم أربعة خيارات ليختار واحدة منها، وعلى المتعلم أن يسترجع العبارة الصحيحة. إن كانت الإجابة خاطئة فالعقاب هو صعقة كهربائية، تزداد الصعقة الكهربائية بشكل تصاعدي مع ازدياد الأخطاء. يعترض المتعلم -غافيغان- بقوله إن قلبه يعاني من مشاكل صحية، فيخبره المشرف بأن الصعقة ليس لها تأثير على المدى البعيد على صحته، ولن تضر بقلبه بأي حال من الأحوال. يوضع المتعلم في غرفة، ويجرب المعلم صعقة بسيطة لا تتجاوز 45 فولت لمعرفة نوع العقاب الذي سينزله بالمتعلم. عند قيام المعلم بقراءة الخيارات بعد سرد العبارات، تبدأ الإجابات الخاطئة بالتوالي ومعها يبدأ المعلم بالقيام بالعقاب بشكل عادي في البداية، ولكن مع توالي صرخات المتعلم بازدياد قوة الصعقات الكهربائية، يبدأ المعلم بالتردد فيخبره المشرف بأن ذلك طبيعي، فالمتعلم عادة لن يقبل العقاب. يبدو على المعلم التردد وخاصة مع ازدياد الصعقات والصراخ ولكنه بالرغم من ذلك يرضخ لتبريرات المشرف. نشاهد حينها -سارسجارد- في دور العالم ميلغرام وهو يشاهد التجربة ويسجل انفعالات المعلم؛ فهو كما يظهر فيما بعد الوحيد الذي يتعرض للاختبار في التجربة، حيث إن المتعلم يمثل أنه مشارك وهو في حقيقة الأمر يجلس في الغرف الثانية دون أي تأثر وهناك شريط يسرد الإجابات ويصدر الصرخات التي يسمعها المعلم. ما كان ميلغرام يحاول معرفته، هو كيف يمكن لإنسان أن يؤذي إنساناً آخر، وهل يكفي أن يتلقى الأمر بالإيذاء ليفعل ذلك، كما كان يود أن يعرف ماذا يحدث للشخص إن تلقى أوامر تتعارض مع ما يمليه عليه ضميره. وكان من الطبيعي أن تشغل هذه الأسئلة ذهن ميلغرام أثناء تدريسه في جامعة ييل في عام 1961، فهو يهودي ينحدر من أصول رومانية ومجرية، وكان من الطبيعي أن يتساءل عما حدث في الهولوكست ودور الجنود فيه خاصة، أن التجربة تزامنت مع محاكمة أدولف إيخمان الذي كان أحد المسؤولين الكبار في الرايخ الثالث "الحزب النازي" في أوائل الستينيات وأطروحات حنا آرندت عن عادية الشر. لكن الفيلم لا يخبرنا عن هذه التجربة فقط، وإنما عن ميلغرام وحياته الشخصية وعن تجاربه التي لم تتوقف عن دراسة السلوك الإنساني، ومنها تجربة ست درجات من التباعد أو "ظاهرة العالم الصغير" وتجربة "الرسالة المفقودة". كما يعرض الفيلم الانتقادات الكثيرة التي تعرض لها ميلغرام من جراء النتيجة الصادمة التي قدمتها تجربة الطاعة، فقد استسلم 65 بالمئة من المشاركين للأوامر ووصلوا إلى تعريض المتعلم إلى صعقة كهربائية بقوة 450 فولت دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الإطلاع على ما حل به جراء هذه الصعقات. وهذا يتعارض مع ما كان أغلبية زملائه يتوقعونه، فقد كانوا يجزمون، قبل بداية التجربة، أن نسبة من سيفعل ذلك لن تتجاوز واحد في المئة. الجميل في الفيلم أن السرد فيه يعتمد على كسر الإيهام أي عبر كسر الجدار الرابع كما يسمى في المسرح، فقد كان سارسجارد يتحدث لنا مباشرة في معظم المشاهد، وهذا التكنيك يُستخدم أحياناً في السينما، وربما من أشهر من يقوم به وودي آلن، لكن الفيلم يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد تمت مسرَحَة الكثير من المشاهد، وبدا أثر مسرح بريخت واضحاً على مخرج الفيلم وكاتبه مايكل الميرايدا، ففي أحد المشاهد على سبيل المثال، يتحدث ميلغرام مع زوجته في السيارة ويبدو واضحاً الاختلاف بين خلفية المشهد وبينهما، وهو هنا لا يعد خللاً فاضحاً كما كان يمكن أن يكون في فيلم آخر، وإنما هو جزء من مسرحة المشاهد التي تبدو فيها أحياناً الخلفيات غير مطابقة للمقدمة. كما يطل بين آن وآخر فيل يظهر خلف سارسجارد أثناء حديثه، وهو هنا يرمز إلى مقولة إنجليزية تنص على أن هناك "فيلاً في الغرفة"، وهي تصف محاولة التعامي عن شيء شديد الوضوح كما يفعل الكثير في تعاميهم عن نتائج تجربة ميلغرام. هذا اللعب والتجريب في الفيلم متناسب تماماً مع الموضوعات التي يتناولها وشخصية ميلغرام نفسه الذي لم يكن يكف عن كل أشكال التجارب، رغبة في سبر أغوار السلوك البشري حتى اللحظات الأخيرة من حياته.
مشاركة :