القوة الأميركية بعد الانسحاب من أفغانستان

  • 9/24/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تحتاج سياسات واشنطن المرتبطة بنشر الديموقراطية إلى مراجعة عميقة، وفي حالات كثيرة، تتصرف الولايات المتحدة وكأن الديموقراطية هي «النظام السياسي التلقائي» في كل مكان، لكن يُعتبر النهج الديموقراطي الأكثر تطلّباً من بين الأنظمة السياسية على أرض الواقع، فهو يحتاج إلى شعب مثقف ومتماسك نسبياً ومجموعة مؤسسات لا يمكن بناؤها إلا بعد مرور قرن من الزمن أو أكثر. طوال ثلاثين سنة، منذ نهاية الحرب الباردة، راحت الولايات المتحدة الأميركية تبحث عن غاية واضحة لاستعمال قوتها العالمية الهائلة، إذ لا يضاهيها أي بلد آخر من حيث القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية مُجتمعةً، ومع ذلك أساءت الولايات المتحدة استعمال هذه اللحظة النادرة من تاريخها، فحاولت نسف جميع المبررات المرتبطة بدورها العالمي بعدما أثبتت التجارب أنها غير نافعة أو تفتقر إلى الشعبية. جرّبت واشنطن في البداية أن تؤدي دور "دولة لا غنى عنها"، ثم دور الجهة التي ترسم الأحداث، وتشكّل الركيزة الأساسية في نظام عالمي ليبرالي، وتحمل راية محاربة الإرهاب حول العالم، وتحمي الحكومات الديموقراطية وتدعمها (بما في ذلك تغيير الأنظمة بالقوة)، ثم حاولت أخيراً أن تقود المعسكر الديموقراطي في المنافسة الدولية القائمة بين الحكومات الديموقراطية والاستبدادية، وعلى مر هذه المراحل، زاد اتكال واشنطن على استعمال القوة العسكرية ثم خسرت ثقتها بالدبلوماسية الجماعية كوسيلة للتعامل مع الخصوم لأنها لم تعد تلجأ إلى هذه المقاربة. أخفى التهديد الوجودي الذي طرحته الحرب الباردة خلافات كامنة حول مكانة الولايات المتحدة المناسبة عالمياً، فمنذ ذلك الحين، يسود جدل عقيم بين معسكر مقتنع بأن المصالح الأميركية لها طابع عالمي وتتطلب مقاربة عدائية وأحادية الجانب وأداء دور قيادي في معظم الملفات، ومعسكر يدعو إلى تضييق مفهوم المصلحة الوطنية وتبنّي مقاربة مبنية على التعاون، ولكن رغم هذه الانقسامات كلها، تخلى الكونغرس عن موقفه المؤثر في مجال السياسة الخارجية، بما في ذلك مسؤوليته الدستورية بإعلان الحرب. تجدر الإشارة إلى اعتياد الولايات المتحدة على المبالغة في تقدير عواقب إخفاقاتها، ففي الأسابيع القليلة الماضية، كَثُر الكلام حول "نهاية الإمبراطورية الأميركية" و"العودة إلى العزلة" واستفادة روسيا والصين من مكاسب هائلة، وانتشرت أفكار مشابهة في نهاية حرب فيتنام أيضاً، لكن بعد مرور 15 سنة، فازت الولايات المتحدة بالحرب الباردة وسيطرت على العالم. بعيداً عن التوقعات القاتمة، كيف يُعقَل أن تتأثر السياسة الخارجية الأميركية عند تطبيق مقاربة مختلفة؟ تقضي الخطوة المناسبة الأولى بمراجعة مفهوم "الاستثنائية الأميركية"، فعلى المستوى المحلي، تبدو "قوة النموذج الأميركي" التي تكلم عنها بايدن مريبة في أفضل الأحوال نظراً إلى مظاهر اللا مساواة بين المداخيل، وتراجع المرونة بين الأجيال، وتعمّق الانقسامات السياسية والعرقية، واستفحال نظريات المؤامرة على نطاق واسع، وانحسار الواجبات المدنية، وحتى الشكوك المحيطة بركيزة الديموقراطية التي تقضي بحصول عملية انتقالية سلمية للسلطة عن طريق الانتخابات. يجب أن تعترف واشنطن بأن سياساتها وطبيعة نفقاتها وخطاباتها رسّخت القناعة القائلة إن الالتزام الأميركي المهم الوحيد في الخارج يقتصر على التحرك العسكري، فبعد 25 سنة على حصد إجماع شبه دائم على العمليات الأميركية العسكرية، اعتاد العالم توقّع جميع أشكال التدخل الأميركي لقياس مدى جدّية تعامل واشنطن معه واعتادت الدول الأخرى، بما في ذلك الأصدقاء والحلفاء، عدم إنفاق الكثير على دفاعاتها الخاصة، وخلال الإدارات الأميركية الديموقراطية والجمهورية معاً، أغرق أعضاء الكونغرس البنتاغون بتمويل سخي، فتحمّلوا هدراً هائلاً مقابل الدولارات التي يتم إنفاقها في ولاياتهم ومقاطعاتهم، وفي الوقت نفسه، خفّض الكونغرس حجم التمويل المخصص لوزارة الخارجية وعمليات غير دفاعية أخرى في الخارج، وبعد تضخم ميزانية الدفاع، أصبحت الفجوة هائلة، وخلال السنتَين الماليتَين 2019 و2020، حاول ترامب من خلال اقتراحات الميزانية زيادة حجم الإنفاق على الدفاع بما يفوق ميزانية وزارة الخارجية والعمليات الخارجية كلها. يعكس هذا الفرق في حجم الإنفاق تفاوتاً هائلاً في الرأسمال البشري وقوة العمليات، وهو يتفاقم نتيجة نظام المحسوبيات السياسية الذي يوصل شخصيات غير مؤهلة إلى مناصب السفراء، ففي معظم الحالات، يضطر البنتاغون لأداء واجبات إنسانية وأخرى مرتبطة بالحُكم بسبب قلة الموارد في مجالات أخرى، مع أن عمله لا يتماشى مع هذا النوع من المهام، وغالباً ما تكون خياراته الأعلى كلفة. أخيراً، تحتاج سياسات واشنطن المرتبطة بنشر الديموقراطية إلى مراجعة عميقة، وفي حالات كثيرة، تتصرف الولايات المتحدة وكأن الديموقراطية هي "النظام السياسي التلقائي" في كل مكان، كما قال السفير الأميركي السابق تشاس فريمان يوماً، لكن يُعتبر النهج الديموقراطي الأكثر تطلّباً من بين الأنظمة السياسية على أرض الواقع، فهو يحتاج إلى شعب مثقف ومتماسك نسبياً ومجموعة مؤسسات لا يمكن بناؤها أحياناً إلا بعد مرور قرن من الزمن أو أكثر، وقد يتطلب بناء أسس هذا النظام التزاماً جدياً على مر عقود عدة، كما فعلت بريطانيا في الهند والولايات المتحدة في كوريا الجنوبية، لكن تبقى الدول المستعدة لتقبّل احتلال خارجي مطوّل نادرة جداً في العالم المعاصر، إذا وُجِدت أصلاً، ولا يمكن الحفاظ على دعم أميركي داخلي لهذا النوع من الالتزامات إلا في الأماكن التي تحمل فيها الولايات المتحدة مصالح استراتيجية أساسية وواضحة، لكنّ انتقاد قرار إنهاء الحرب في أفغانستان بسبب افتقاره إلى "الصبر الاستراتيجي" يغفل عن الواقع الذي أدركه الرأي العام الأميركي منذ وقت طويل: لا مصالح استراتيجية في الحرب التي تخوضها واشنطن، ولا ننسى طبعاً أن الديموقراطية لا يمكن نشرها بالقوة، مع أن الولايات المتحدة تتابع محاولاتها في هذا المجال. على صعيد آخر، لا بد من مراجعة الفكرة التي تلوّح بها إدارة بايدن حول تعرّض الديموقراطية لهجوم عام من الأنظمة الاستبدادية، إذ يؤدي تقسيم العالم لهذا السبب إلى تراجع فرص النجاح في معالجة المشاكل العالمية الكبرى مثل منع الانتشار النووي، والتغير المناخي، وأزمات الصحة العالمية، والجرائم الإلكترونية، والاستقرار المالي، ويرتفع عدد الدول الاستبدادية التي يحتاج الغرب إلى تعاونها الناشط في هذه المجالات، ومن الضروري أيضاً أن تُميّز واشنطن بين مصالحها الخاصة في أي دولة أخرى والحرب الأيديولوجية المرتبطة بالسياسة الأميركية تجاه الصين تحديداً، فقد يكون التعامل مع تصميم الحزب الشيوعي الصيني على تقوية مكانته محلياً وإقليمياً كجزءٍ من طموحه العالمي لتدمير الديموقراطية نهجاً مدمراً بمعنى الكلمة، فيزيد احتمال اندلاع الحرب بسبب تايوان، ولا مفر من أن تكون تلك الحرب كارثية على جميع الأطراف. لكنّ هذه التعديلات لن تنتج عقيدة جديدة في مجال السياسة الخارجية، ونظراً إلى سرعة التغيرات العالمية الأخيرة ونطاقها وعمق الانقسامات السياسية الأميركية، لا يمكن التأكيد على إمكانية تحقيق هذا التقدم في الوقت الراهن، كذلك، لا تستطيع الولايات المتحدة التحكم بجزء من التغيرات الضرورية. سيمرّ بعض الوقت مثلاً قبل أن تقتنع الدول الأخرى بأن القرار الأميركي بعدم التدخل في الخارج أو بسحب القوات الخارجية لا يعني أن واشنطن تتخلى عن التزاماتها أو تنسحب من الساحة. مع ذلك، ستعكس هذه التغيرات تبدّلاً جذرياً في الممارسات الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة، فبعد هذه المرحلة، لن تعتبر الولايات المتحدة نفسها "شرطية العالم" كما يقول المحافظون الجدد، ولن تحصر مصالحها الأساسية في مهام الدفاع عن الذات ضد تهديدات الصين وروسيا كما يقترح بعض السياسيين الواقعيين، وستؤدي هذه التغيرات إلى نشوء سياسة تقيم التوازن المناسب بين الأدوات العسكرية وغير العسكرية، وتكون أكثر انضباطاً في إطلاق التدخلات العسكرية وأكثر حكمة في طريقة تنفيذها، وأكثر إدراكاً لأهمية الأدوات المتعددة الجوانب، وأقل ميلاً إلى تنفيذ تحركات أحادية الجانب، وأكثر منطقية في تعاملها مع الديموقراطية في الأماكن الأخرى. باختصار، سينتهي عصر الهيمنة الذي تتمسك به الولايات المتحدة.

مشاركة :