هل من تغيير محتمل في روسيا بعد انتخابات مجلس الدوما؟

  • 9/24/2021
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يبالغ الكثيرون في تقدير أهمية الانتخابات البرلمانية الوشيكة في روسيا ويستخف بها آخرون أكثر من اللزوم، فمن جهة لن تغيّر هذه الانتخابات شيئاً في شكل النظام السياسي العمودي وجوهره، حيث "يتم اتخاذ جميع القرارات مسبقاً" كما يقول المشاركون في مجموعات التركيز اليوم، لكن من جهة أخرى، لا تحصل هذه الانتخابات لمجرّد أن الدستور ينصّ عليها بل لسبب آخر أيضاً: يسهل إقناع الرأي العام اللامبالي بالتخلي عن هذه الانتخابات المكلفة، مثلما وافق في السنة الماضية على التعديلات الدستورية التي تسمح للرئيس فلاديمير بوتين بالبقاء في السلطة حتى عام 2036. النظام الروسي، لا الشعب، هو الذي يحتاج إلى الانتخابات لأنها ستؤكد شرعية النظام وتحافظ على جاهزية الأغلبية ولو نسبياً، فلا تهدف الانتخابات البرلمانية إلى التناوب على السلطة، ولا حتى إعادة تنظيم مجلس الدوما بحد ذاته، كما أنها لا تتمحور حول التمثيل السياسي: لا يمثّل البرلمان الروسي جزءاً كبيراً من الناخبين لأنه مجرّد هيئة تمثيلية للنُخَب والجماعات المنتقاة مسبقاً. تهدف الانتخابات فعلياً إلى دعم الرئيس ونظامه، فالاستحقاق الذي جرى بين 17 و19 سبتمبر 2021 كان عبارة عن تصويت لمنح الثقة إلى بوتين ونظامه، على غرار الانتخابات الرئاسية في عام 2018 والاستفتاء الدستوري في عام 2020. دائماً ما يُحوّل النظام الروسي الاستبدادي الناضج أي استحقاق انتخابي، لا سيما على المستوى الفدرالي، إلى تصويت حول موضوع معيّن بدل أن يكون مناسبة للقيام بخيارات محددة، ومن المتوقع أن يشارك المستاؤون من أداء حزب "روسيا الموحدة" في الانتخابات للتصويت لهذا الحزب الحاكم في مطلق الأحوال لأن الاستحقاق الانتخابي لا يتعلق بالحزب بحد ذاته بل بالأساس المنطقي الكامن وراء الانتخابات، أي الموافقة على الوضع القائم ودعم النظام الحالي. إنه شكل من العلاج الذي يحصل تحت إشراف الدولة: تهدف الانتخابات إذاً إلى إثبات استمرار دعم معظم الناخبين لبوتين، مع أن الأسباب التي تدفعهم إلى توحيد صفوفهم تراجعت بكل وضوح في ظل تصاعد الاستياء من الوضع القائم في البلاد، وإذا شكك أحد بإقدام أصدقائه أو جيرانه أو زملائه في العمل على دعم النظام مجدداً، فسرعان ما يستنتج أنه قرر، هو والمواطنون الآخرون، التصويت لصالح بوتين وتعديلاته المرتبطة بمدة الولاية الرئاسية وحزبه. وبما أن الأغلبية لا تزال على حالها، فمن الأفضل الانضمام إليها بدل التمسك بحلم التغيير، لا سيما في ظل استمرار اضطهاد الأقلية وقمعها. يتراجع عدد من يعارضون النظام صراحةً مقارنةً بمن يدعمونه بكل وضوح، لكنّ معظم الناخبين لا يبالون بما يحصل ويتأقلمون مع جميع الظروف، فهم يهتمون بشكلٍ أساسي بالاستفادة من وظيفة ثابتة ومدخول جيد. تُعتبر المدفوعات الاجتماعية التي يحصل عليها الناخبون لمرة واحدة لشراء ولائهم قبل الانتخابات مباشرةً منفعة إضافية، مع أن هذه المبالغ المالية لا تعطي آثاراً طويلة الأمد لأن معظم الناس لا يعتبرونها عملاً سخياً بل جزءاً من واجبات الدولة. تكشف الانتخابات نزعتَين بارزتين: تبدأ الأولى من أعلى المراتب حيث تطلب الدولة من الناس أخذ الأموال للمشاركة في التصويت والرضوخ لها كي يتلقوا دفعة أخرى في المرة المقبلة أيضاً؛ وتبدأ النزعة الثانية من الشعب الذي يبدو أكثر استعداداً للتصويت لمن يملك الأموال والموارد، فبرأي هؤلاء الناس، من غير المنطقي أن يصوتوا لمن لا يملكون شيئاً. لهذا السبب، تصوّت الفئات الفقيرة من الشعب الروسي (أي الجماعات التي تكون أدنى مستوى من الطبقة الوسطى) لمصلحة النظام، إذ تُعتبر الدولة مصدر المال الوحيد بنظرهم، حتى أنها تؤمّن لهم الوظائف في حالات كثيرة، وتؤدي دوراً متوسعاً في الاقتصاد الروسي أيضاً، وكلما زادت أعداد المتّكلين على الدولة، أصبحوا أكثر ميلاً إلى التصويت للجهة التي توظفهم وتعيلهم. يتوقف الحكم الاستبدادي في روسيا على استمرار مظاهر الاتكال على الدولة ورضوخ الناس لها مسبقاً، فضلاً عن لا مبالاتهم بكل ما يحصل، كذلك، تؤثر عمليات التزوير والحِيَل القذرة على نتائج الانتخابات طبعاً، وقد اتضحت مظاهرها منذ الآن في الحملة الانتخابية الراهنة، لكن تتابع أهم أداة في الحكومة حشد الجماعات التي تتكل على الدولة عبر فرض ضغوط إدارية أو مؤسسية عليها لدفعها إلى التصويت. وفق هذا السيناريو، يجازف الموظفون بخسارة عملهم أو مواجهة عقوبات مالية أو إدارية أخرى، لذا يضطرون لإثبات تصويتهم أمام رؤسائهم. يستطيع الموظفون طبعاً أن يصوتوا لأطراف مختلفة عن حزب "روسيا الموحدة"، لكن معظمهم يكونون مقتنعين بأن رؤساءهم يستطيعون مراقبة تصويتهم، لذا يفضلون التصرف بحذر. لهذا السبب، تضطر السلطات لأداء مهمة شائكة، فتحاول تخفيض نسبة مشاركة الناخبين ذات التوجهات الديموقراطية (عبر غربلة المرشحين بطريقة صارمة، وإعطاء انطباع مفاده أن لا جدوى من التصويت). في الوقت نفسه، تبذل هذه السلطات قصارى جهدها لزيادة نسبة مشاركة الناخبين التقليديين الذين يتكلون على الدولة. كما حصل في جميع الانتخابات الروسية الحديثة، من المتوقع أن تشهد انتخابات مجلس الدوما المرتقبة شكلاً من "التصويت الذكي": إنها مبادرة أطلقها الناشط المعارض ألكسي نافالني للتصويت لأي مرشّح قوي من أي حزب لا ينتمي إلى "روسيا الموحدة"، لكن تجدر الإشارة إلى أن هذا التصويت التكتيكي يعني أن اختيار أي حزب بديل ظاهرياً، مثل الشيوعيين، سيصبّ في مصلحة الحكومة في مطلق الأحوال. الحزب الشيوعي الروسي ليس جزءاً من الإدارة الرئاسية طبعاً، لكنه مضطر لإثبات ولائه النسبي للنظام لضمان صموده، ولهذا السبب، سيكون التصويت لمصلحة هذا الحزب "المعارِض" مرادفاً للتصويت للنظام. تُعتبر أحزاب المعارضة الأربعة في البرلمان عناصر مهمة للحفاظ على النظام السياسي الاستبدادي ونفوذ بوتين الشخصي، فمن خلال رفع راية الديموقراطية وحرية الاختيار، تبقي هذه الأحزاب الناخبين، سواء كانوا محافظين أو يساريين، تحت سيطرة الحكومة وتمنعهم من المشاركة في أي نشاطات سياسية غير محبذة. يُعتبر التصويت الذكي إذاً مجرّد وسيلة كي تثبت المعارضة لحزب "روسيا الموحدة" أنها تستطيع تقسيم الأصوات على الأقل، وهو يثبت للناخبين أيضاً أن هذا النظام القوي والمحصّن ظاهرياً يحمل نقاط ضعف معينة في نهاية المطاف، لكن من الناحية التكتيكية، لا تطرح هذه الطريقة أي خيارات سياسية حقيقية بل تعطي الأولوية للنتائج بدل القيم، وإذا أراد أي ناخب مؤيد للديموقراطية التصويت بناءً على خياراته الأيديولوجية، فسيختار على الأرجح حزب "يابلوكو" الليبرالي مثلاً بدل مرشّح الحزب الشيوعي، مع أن هذا الأخير يستعمل الحزب كأداة للوصول إلى مجلس الدوما بكل بساطة. بعد انتخابات مجلس الدوما، من المستبعد أن تندلع أي احتجاجات لأن معسكر المعارضة والمجتمع المدني سيكون في حالة إحباط، فالوضع اليوم لا يشبه عام 2011، حين أطلق تزوير انتخابات مجلس الدوما احتجاجات حاشدة، ففي تلك الفترة، لم تكن نشاطات المجتمع المدني مرادفة لمخالفة القانون، وكانت التسويات والنقاشات والتقلبات داخل أوساط السلطة ممكنة، وفي آخر عشر سنوات، تحوّلت الأوتوقراطية المخملية المستنيرة التي انحسرت بدرجة معينة في عهد ديمتري مدفيديف (بين العامين 2008 و2012) إلى استبداد شامل. باختصار، لن تُحدِث الوجوه الجديدة والقليلة في مجلس الدوما المقبل، بعد إعادة تنظيم الموالين للسلطة، أي تغيير في النظام السياسي، بل من المتوقع أن تتكثف حملات القمع التي يطلقها النظام، فلا علاقة لهذه الأحداث بالانتخابات، بل إنها جزء من استراتيجية النظام بعد تعديل مدة الولاية الرئاسية في السنة الماضية، وسيحصل الكرملين على ما يريده، وسيصبح مجلس الدوما أداة لدعم نظام سياسي لا يخوض أي مرحلة انتقالية بل يستعد لإعادة تنظيم نفسه في عام 2024.

مشاركة :