لأنها بألف كلمة أحيانا، تفرد الصحافة الغربية للصورة مساحات كبيرة. بدأ ذلك منذ عقود بعيدة عندما تنبهت للتحولات التي أحدثها ظهور التلفزيون في مزاج وذائقة الجمهور. فحاولت أن تنافسه بطريقتها. العكس لدينا في الصحافة العربية. فمعظمها مازال أسيراً للحروف والكلمات. ولو عندك شك.. القِ نظرة بسيطة على أي صفحة بأي صحيفة بالعالم العربي. في الأغلب ستجد نحو 1500 كلمة، إن لم يكن أكثر. أغلبها حروف جر وظروف زمان ومكان وأسماء إشارة ونعوت ومترادفات تؤدي المعنى نفسه، ثم كمية هائلة من مرادفات مثل «تعزيز» و«دعم» و«تخطيط»، مع إفراط كبير في استخدام صيغة أفعل التفضيل سلباً وإيجاباً، مع حفنة من أرقام صماء ونسب مئوية مطلقة. وما تبقى من المساحة سيكفي بالكاد لقليل من الجمل المفيدة التي قد لا يستوعبها القارئ المسكين بعدما تعثر وتاه وسط كل ما سبق. أين الصورة إذن من كل ذلك؟! ستجدها منشورة على استحياء، فقط لملء الشواغر وسد العتب. العكس تماماً في الصحافة الغربية.. الصورة نجم متألق ضمن عناصر العمل الصحفي، خاصة على الصفحات الأولى. وتبدو بلد كأفغانستان مثل استوديو تصوير مثالي لاقتناص لقطات مذهلة تلهب حماس وعواطف القراء الغربيين. هذه صارت مثل قاعدة رياضية يحفظها المصورون عن ظهر قلب وتعشقها الصحافة بالغرب منذ قصة صورة شربات جولا التي طبقت شهرتها الآفاق. كان المصور الأميركي ستيف ماكوري قد التقط في الثمانينات صورة للفتاة الأفغانية الصغيرة التي لم يتعد عمرها حينئذ 10 أعوام، ذات العينين الخضراوين، ومسحة من الحزن والفقر تركت آثارها واضحة على ملامحها الجميلة، ونشرها في مجلة ناشيونال جيوغرافيك عام 1985. أصبحت الصورة أيقونة ترمز لمأساة أفغانستان واللاجئين والفقراء الفارين من نيران الحروب. صحيفة الجارديان البريطانية نشرت الأسبوع الماضي تقريراً مطولا أعادت فيه نشر صورة شربات جولا في إطار لقاء مع مصورها ستيف ماكوري، مع صورة حديثة لفتاة أفغانية التقطها مصورها الإيطالي أليسيو مامو في جزيرة صقلية بقاعدة أميركية، كأنها جولا الجديدة. كانت الفتاة بعينيها الواسعتين الخضراوين تقف مع عائلتها في طابور طويل من الأفغان الفارين من طالبان، في انتظار رحلة طيران جديدة تقلها إلى فلادليفيا في الولايات المتحدة. ومع أن الفتاتين - شربات جولا وفتاة القاعدة الأميركية - مختلفتان تماماً من الناحية التقنية، إلا أن الجارديان تقول إن بينهما تشابها كبيراً. فكلتاهما لهما عينان خضراوان وترتديان وشاحاً أحمر اللون، ناهيك عن تماثل الظروف الذي يبدو فعلا مثل قافية تاريخية تنطوي على مفارقة مؤلمة. فهما لاجئتان بعد حربين مروعتين يفصل بينهما أكثر من 35 عاماً.. الأولى انتهت بانسحاب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان، والثانية انتهت بانسحاب الولايات المتحدة. وكأن اللقطتين تلخصان فشل التدخل السوفييتي والأميركي، بتعبير الجارديان. يقول المصور ستيف ماكوري تعليقاً على ذلك: «نعم هناك كثير من التشابه بين الحالتين.. الأفغان يعيشون نفس المأساة وكأنهم عادوا إلى الثمانينيات.. إنهم يبحثون عن الأمن، مشردون يسعون للجوء». ويضيف أن الفرق الأساسي بين الفتاتين يكمن في مصيرهما، حيث إن«الفتاة التي في طريقها للولايات المتحدة ستحصل على الأرجح على تعليم جيد».. أما جولا التي ما زالت تعيش في أفغانستان فهي تواجه مصيراً غامضاً في ظل حكم طالبان. ويفضل ماكوري الآن ألا يتحدث عنها خوفاً على مصيرها في ظل الحكم الجديد بأفغانستان.
مشاركة :