في ذكرى رحيل الزعيم العربي الكبير جمال عبدالناصر يوم 28 سبتمبر 1970 نتذكر ما قاله الشاعر نزار قباني «قتلناك.. يا جبل الكبرياء وآخر قنديل زيت يضيء لنا، في ليالي الشتاء وآخر سيف من القادسية..» وهناك أيضا شهادات لرفاق السلاح عن جمال عبدالناصر نشير إلى عدد منها. اللواء أركان حرب (محمود نور الدين ناصر) نائب البحوث العسكرية عام 1958. يقول: «حدثت لي قصة مع رئيس الجمهورية ـ بيَّنت لي جانبين من جوانب شخصيته وأخلاقه، الأول أنه كان وفيًا لجميع زملائه إلى جانب بساطته والثاني التأثير الذي يتركه في نفوس الآخرين ولا سيما من يقابلونه أول مرة»، يقول اللواء محمود: «كنت قد زرت الهند عام 1954. ضمن بعثة عسكرية مصرية وقد وقع علي الاختيار لأكون مرافقًا عسكريًا للجنرال (تامايا) القائد العام للقوات المسلحة الهندية حينما زار مصر عام 1958 وكان في وقتها ضمن برنامجه زيارة الرئيس (جمال عبدالناصر)، وكان الجنرال (تامايا) معجبًا بالرئيس جمال عبدالناصر بمواقفه الصامدة والعنيدة في مواجهة المصاعب التي كانت تقابله، وكان الجنرال (تامايا) يستفسر عن كل شيء يخص جمال عبدالناصر، أخلاقه وطباعه، ولقد اندهش الجنرال الهندي عندما سألني عن مؤهلات جمال عبدالناصر الدراسية وأين تعلَّم؟ وفي أي الجامعات في الخارج؟ فأجبته أن جمال عبدالناصر لم يتعلم في الخارج بل لم يسافر إلى الخارج على الإطلاق قبل قيامه بالثورة وأنه تخرج في الكلية الحربية المصرية وكلية أركان الحرب فقط. وكلتاهما في القاهرة فقال لي والدهشة تملأ ملامحه: «كان في اعتقادي أن جمال عبدالناصر تخرج في جامعة (كامبردج)» فرد عليه اللواء محمود، «كنت مثلك لولا أن جمال عبدالناصر كان من دفعتي» وهنا ازدادت دهشته الجنرال الهندي (تامايا) حين عرف ذلك عن جمال عبدالناصر وبعد فترة من تناول الغداء مع جمال عبدالناصر وتناول القهوة في صالون بيته، أردت الخروج من الصالون ولكن جمال عبدالناصر حينما رآني أهم بالقيام قال: «رايح فين يا نور خليك معايا بقالي كتير ما شفتكش» ولاحظ الضيف الهندي الحوار الذي كان يدور بيني وبين الرئيس جمال عبدالناصر، وهنا تبين له مدى تواضع الرئيس، وبعد انتهاء الزيارة قال لي الجنرال الهندي (تامايا): «لم أر رئيسًا أشد تواضعًا من رئيسكم جمال عبدالناصر فهو قائد كريم متواضع لا ينسى أصدقاءه وزملاءه». العقيد أركان حرب عبدالرحيم قدري الأستاذ بمعهد «الضباط العظام». يقول عبدالرحيم حين كان جمال عبدالناصر مدرسًا بمدرسة الشؤون الإدارية في الكلية الحربية: كنت وقتها أركان حرب المدرسة الثانوية العسكرية وكان جمال عبدالناصر يتردد كثيرا على بيتي ليساعدني ويشرح لي دروس امتحانات القبول في كلية أركان حرب التي كنت متقدما للالتحاق بها وكان هو قد تخرج فيها فعلا، وكرر جمال عبدالناصر زياراته لبيتي والتقي ذات مرة شقيقي الأصغر أحمد راشد، وتمر السنوات وتقوم الثورة ويذهب الرئيس جمال عبدالناصر إلى مرسى مطروح ليستجم بعض الوقت بعد عملية الزائدة الدودية التي أُجريت له وبالصدفة يلتقي شقيقي أحمد راشد الذي تخرج وأصبح مهندسًا زراعيًّا، فيتذكره على الفور ورحب به وسلم عليه بحرارة وسأله عني ببساطته وتواضعه بقوله لشقيقي: «أنا نازل مصر النهاردة مش عايز حاجة من قدري؟ مش عايز تبعث له حاجة أو تقول له حاجة، كأنه شخص عادي يقابلني كل يوم في الأتوبيس أو في الشغل وليس رئيسًا للجمهورية كلها». اللواء أحمد إسماعيل علي رئيس المخابرات العامة ووزير الحربية يقول: «بعد تخرجنا في الكلية الحربية جاء أول تعيين في منطقة منقباد العسكرية معا ضمن مجموعة من 12 ضابطًا مدة سنتين جمعت بيننا المحبة والألفة والمودة، ولا أستطيع أن أنسى جو مناوراتنا في الجبل وفي البرد القارس، وجلوسنا على الأرض نسهر نحكي قصصًا ونأكل العدس، ومثل هذه الحفلات كنا نقيمها كل ليلة، في منقباد من هذه اللحظة بدأ يدور في عقولنا نحن مجموعة الضباط التفكير في القيام بالثورة، وبعد قيام الثورة أصبح زميل دفعتنا جمال عبدالناصر رئيسا للجمهورية». كان جمال عبدالناصر حريصًا على مجاملة زملاء دفعته ولا يشعرهم بأنه أفضل منهم، يقول اللواء أحمد: «كان هناك ترتيب لعقد زواج ابنتي نرمين عام 1966 وأصرت ابنتي أن تدعو الرئيس جمال عبدالناصر لحضور فرحها وحفل زفافها، فكتبت له دعوة شخصية وتركت له تحديد موعد عقد القران في اليوم الذي يجد الرئيس نفسه غير مشغول، هذا إن كان سيوافق على الحضور، وأوضحت له في دعوتها أننا نعلم بأنك مشغول ومسؤولياتك كثيرة ولك العذر في ذلك، ويستطرد اللواء أحمد قائلا: كنت بعد ذلك مع الرئيس جمال عبدالناصر في المطار لاستقبال ضيف كبير فقال لي الرئيس: «طبعا سأحضر الفرح يا أحمد ولو كنتم ما عزمتموني كنت هازعل منك»، وحدد يوم أربعاء ومن لحظتها طبعت الدعوات في يوم واحد ووزعت كلها في يوم الفرح ثم علمت بأن الرئيس الجزائري هواري بومدين الذي كان في زيارة لمصر سيلقي خطابًا في مجلس الشعب مساء يوم الأربعاء نفسه الذي تم فيه تحديد فرح ابنتي نرمين فاستسلمت للأمر الواقع وهيأت نفسي لتلقي اعتذار الرئيس جمال عبدالناصر عن حضور الفرح مقدرا له عذره، ولكنه كان حريصا على أن يفي بوعده فبعد انتهاء بومدين من إلقاء خطابه، جاء الرئيس ليحضر فرح ابنتي ويشهد بنفسه على عقد الزواج وبقي بيننا حوالي ساعة ونصف تحيط به كل القلوب التي أسعدها تواضعه ورقته ولطفه ومجاملته، واعتبرت أنا وكل الزملاء حضوره الفرح تكريمًا من الرئيس لكل زملاء الدفعة التي هو منها. وتحكي السيدة حرم المرحوم العقيد جمال الدين خليفة أن جمال عبدالناصر كان أحد زملاء دفعة العقيد جمال الدين خليفة في التخرج بالكلية الحربية، حيث كان زوجي جمال خليفة قد ترك خدمة الجيش وعين في المؤسسة الاستهلاكية ومن لحظتها بدأ يشعر بالمرض وتصادف أن قابل الرئيس جمال عبدالناصر فسأله الرئيس عن أحواله وصحته وعرف منه أنه مريض بالكبد فأمر بسفره على نفقه الدولة للعلاج بالخارج فورا واستمر علاجه في لندن ستة أشهر كاملة حتى شفي تماما، ولكن بعد سنة عادت إليه آلام الكبد مرة أخرى بصورة أشد قوة من قبل فظل يتردد على مستشفى القوات المسلحة عدة مرات لإجراء بعض الفحوصات والتحاليل والأشعة من أجل معرفة كيف عاد إليه المرض وبالرغم من ذلك لم ينقطع عن الذهاب إلى مكتبه في المؤسسة الاستهلاكية وعاد يوما إلى منزله مندهشا متسائلا كيف عرف جمال عبدالناصر أنني مرضت مرة أخرى؟، قال جمال: «أنا عارف وقد أمرت بسفرك إلى لندن مرة أخرى لتستكمل علاجك» وفي ليلة السفر إلى لندن أرسل الرئيس واحدا من ضباط رئاسة الجمهورية ليبلغ جمال خليفة تحيات صديقه وزميله الرئيس جمال عبد الناصر، ومن جانب آخر ليطمئن على أن كل الترتيبات تمت على الوجه الأكمل، وتقول حرم جمال خليفة: كنت في المستشفى بجانب زوجي بلندن فأرسل إلينا الرئيس جمال عبدالناصر تحياته وتمنياته ورغم كل ما كنت أسمعه من زوجي المرحوم عن زميله ورفيق دفعته الرئيس جمال عبدالناصر لم أكن أتصور أن يصل أي إنسان إلى أعلى المناصب وأن يكون رئيسا للجمهورية ويظل على وفائه لأصدقائه ورفاقه وزملائه إلى هذا الحد وأن يصل في تكريمهم ورعايتهم والعناية بهم إلى أكثر ما يتصوره أي إنسان.
مشاركة :