الأدب والفن والفلسفة هي الطريق إلى لمعان النفس

  • 10/1/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ينطلق أستاذ الأدب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط الشاعر والروائي محمود عبدالغني في كتابه “معجم تمهيدي لنظرية التحليل النفسي للأدب” مستهدفا غايتن، ومتوجها إلى جمهور مزدوج: للنقاد ولدارسي الأدب. حيث يقدم المعجم معارف ومفاهيم ومنهجيات ومراجع ومصادر تساعد على دراسة العمل الأدبي الذي يقع في خانة “الذات العميقة”، حسب تعبير بروست، أو “الكتاب المفتوح” حسب تعبير سيغموند فرويد. لكن هذا الطريق المزدوج، وفقا لعبدالغني، سيتجاوز ازدواجيته وسرعان ما يبدأ في نسخ نفسه حتى يظهر في صور كثيرة، أحيانا محيرة. إنه يدخل، في اتصال مباشر، في اهتمامات كل من اللساني ودارس الكتابات المرجعية والشغوف بالأعمال الاسترجاعية والمؤرخ الأدبي ودارس التعبيرات اللاواعية. لكن في النهاية يبدأ هذا الفريق في الالتئام، ويهتم بأعضائه، في احترام تام للتخصصات الملتئمة، تحت قيادة رجلين عظيمين، كثيرا ما لعبا في خيال الناس منذ قرون، الأول يدعى “مصنّف المعاجم” والثاني اسمه سيغموند فرويد. الكلمة والصمت يرى عبدالغني أنه حين يبدأ مصنف المعجم العمل يتخذ وتيرة منتظمة، يتحول اللقاء بالمصطلحات إلى مناظرة للتخصصات. ويضيف “إنه معجم، لكنه حكاية أيضا. على القارئ ألا يستغرب إن بدأ المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان يتبرم من محلل نفسي ألماني س. فرويد، يستند إلى أفكار لساني أو فقيه لغة ابن جلدته. فيعود الفرنسي للبحث عن لساني من أبناء جلدته، حالة ج. لاكان وإميل بنفينست، فيحرضه لمهاجمة المحلل النفسي الألماني من خلال تقويض نظرية اللغوي الألماني: يتجسد هذا النموذج في المواجهة غير المباشرة الساخنة بين جاك لاكان وفرويد، ويجد القارئ تفاصيلها في مادة كارل أبيل. لا مجال للاتفاق إذن في هذه الساحة الحمراء. جنسية مقابل جنسية. مدرسة مقابل مدرسة. ولسان في مواجهة لسان. إن تاريخ النظرية يتدفّق في اللسان والأدب”. ويشير في مدخله التمهيدي للمعجم، الصادر عن دار خطوط وظلال الأردنية، إلى أن المحلل النفسي يواجه دوما الصمت، اللاخطاب. إن لفظة “كلمة” في التحليل النفسي هي كلمة غريبة. وكما يؤكّد لاكان أن لفظة “كلمة” هي في صيغتها اللاتينية motus تعني عكس معناها: الصمت. وهنا يستدعي ما قاله لافونتن “كلمة، تعني في الجوهر أنه ليس هناك إجابة”، وأن ليس هناك خطابا، على عكس ما نتوهم. إن وجود الكلمة يدفع إلى مواجهة الصمت. والصمت حسب لاكان هو بالضبط “الشيء الذي لا نتلفّظ حوله بأي كلمة”. كما يستحرض ميشيل أريفيه، في نفس المعنى اللاتيني، الصيغة التي وضعها أدولف ريبوتوا “الكلمة mot هي الموت mort بإسقاط حرف الراء”. إذن، هل التحليل النفسي هو ضرب من الأدب؟ أم هو ضرب من تحليل الخطاب مثلما هو ضرب من تحليل الإنسان من خلال كلماته، صمته ولا خطابه؟ هذا ما يحاول عبدالغني إثباته من خلال هذا المعجم التمهيدي. الأدب وعلم النفس يوضح عبدالغني: جعلت الروائية وعالمة النفس سارة شيش من التحليل النفسي ضربا من الأدب. وقد استشهدت بكتابات أنطونينو فيرو، خصوصاً كتابه “التحليل النفسي بَعده أدبا وعلاجا” (2005). كما أن عالم النفس البريطاني ويلفريد بيون (1897 – 1979) وتلاميذه كانوا يؤكّدون أن التقرير النفسي الجيد لا يمكن أن يتحقق إلا بواسطة الخطاب غير المباشر الحر إن “سردية” المريض، تقول سارة شيش، ما كان سيقال من قبل بواسطة الأعراض. وأكد أيضا المحلل النفسي الفرنسي بيار هنري كاستل أن التعبير الأدبي “السردي” للمريض هو الوحيد الكفيل بإسماع أصوات حيوات غير مسموعة. وهذه العملية لا تقتصر فقط على المحتوى السردي لما يحكيه المريض، لكن، على الطريقة، الأسلوب، النبرة، الجملة، التي بواسطتها يقدم المريض حياته. ويقول المؤلف إن الأدب يقول ما تقوله الأعراض، وبجدارة أكثر. كان فرويد، في الغالب، يعد “الأدبي” طريقا رئيسة نحو اللاوعي، أو على الأصح نحو أعراض اللاوعي، و”عقدة أوديب” مثال على ذلك. لقد صاغت الأسطورة الإغريقية، في وقت مبكر، من خلال مسرحية “أوديب ملكا” لسوفوكليس، مفهوما أدبيا لتلك الطريق المؤدية إلى اللاوعي لا تقوم المعالجة المسرحية في شيء آخر سوى بالإفضاء، بأن أوديب نفسه هو قاتل لايوس، وأنه أيضا ولده منه ومن جوكاستا. إنها حقيقة مذهلة تلك التي أكدها سوفوكليس. إنها حقيقة ممهدة لحقائق كثيرة ظلت تتجدد، وظل الزمان يترجمها. ويؤكد عبدالغني أن الأدب ظل يشكل درعا واقيا للتحليل النفسي، وظلّ هذا الآخر يتمسك به، ويطارده حتى يظهر له لمعان النفس. تلك مفاهيم تطورت منذ هوميروس إلى اليوم. مثلا أثبت جلّ الدارسين أن عوليس رجل مركّب ومتناقض .لذلك فهو منجم كلّ علة وتوجه عند الأدباء والمحللين النفسيين على حد السواء. هذا ما أثبته الكاتب الفرنسي سيلفين تيسون في روايته “صيف مع هوميروس” 2018. ومعنى ذلك أن كل شيء جديد تحت الشمس هو ملتقى طرق بين الأدب والنفس البشرية. ويلفت إلى أن اللغة الأدبية حين توظف وضعيات التناظر، فما ذلك إلا من أجل تقديم في الكون منفصلة، لكن اللغة تجتهد لإبراز التشابه والتناغم بينها. وفي مقدمة تلك الأشياء الكونية الإنسان باعتباره لغزا، وعالما مركّبا ومتناقضا. في هذا السياق استمع بيار بايار لرنين فكر فرويد في الأدب، فأعاد إلى التداول مفهوم “أنا عميق” الوارد في الجزء الأخير من “البحث عن الزمن الضائع” لبروست، ويقابله أيضا “كتاب داخلي”. إن “البحث عن الزمن الضائع” هو “أنا عميق”، وأيضا “كتاب داخلي” ضخم تتجول كلماته داخل أرجاء النفس البشرية العميقة. ويضيف أن جاك لاكان ظل يردد أن “هدف التحليل النفسي ليس الشفاء”، بل إفساح المجال للتعبير عن الحقيقة. فبقدر ما يقترب التحليل النفسي من الطب، فإن له وشائج قوية بالفلسفة والأدب والفن. لذلك، إذا أردنا جرد الأعمال الأدبية والفلسفية والفنية التي رافقت التحليل النفسي ورافقها التحليل النفسي، فإننا سنعتبر كل الفلسفة وكل الأدب وكل الفن هو سعي لقول الحقيقة كما هدف إلى ذلك التحليل النفسي، دون أن ننسى مرافقة اللسانيات لمجال يفترض أنه علاج طبي. كما استعان فرويد باللساني الألماني هانس سبيربير، الذي ظل يستدعيه في العديد من الأبحاث، خصوصا الأبحاث التي أنجزها حول تعايش المعاني المتضادة في الأحلام. وقد امتدت أيضا إفادة سبيربير إلى مستوى دعم فكرة، ظل فرويد يعود إليها “الأصل المشترك للغة واللاوعي”. ويخلص إلى أن في المعجم نظريات كثيرة وأسماء أعلام ومراجع ومصادر يمكن للقارئ العودة إليها لتغذية ثقافته بهذا المجال الشاسع والممتد مثل الأفق. لقد انتفت فيه المجالات والتخصصات، واقتربت المدارس والتيارات، ضمن إطار مقارن، وتعايشت الفصول والقرون. فبدا كاتب القرون البعيدة عالما بكل شيء يقع بين السماء والأرض، أكثر مما يعرف علماء النفس في القرن الماضي.

مشاركة :