بين جماليات الخطاب الروائي وحقائق السرد التاريخي

  • 9/30/2021
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

تتكون الرواية من أربعة وعشرين فصلاً ، وهذه الرواية – كما يقول مؤلفها - تعرض سيرة الملك عبد العزيز (رحمه الله) من خلال مشاعر والده الإمام عبد الرحمن الفيصل ، هوبهذه الإشارة يخرج بالرواية من كونها تسجيلاً تاريخياً محضاً إلى صيغتها الأدبيّة دون أن يمسّ بصدقيّتها الموضوعية معزّزاً البعد النفسي والوجداني ، مشيراً إلى الدور الاستراتيجي الذي نهض به الملك عبد العزيز في مرحلة تاريخية حرجة للغاية ، وفي وقت تكالبت فيه الأمم على العالم العربي فشرعت في العمل على تقسيمه وفقا لمعاهدة (سايكس بيكو) إذ عمل الملك المؤسس (رحمه الله ) على لمّ شتات الجزيرة العربيّة ووحّدها تحت راية التوحيد . وقد ألمّ في الفصل الأول بمجمل الأوضاع التي كانت عليها الحال قبيل مولد الملك عبد العزيز محيطا بأركان الموقف كلِّه سياسيّاً واجتماعيّاً ومحدّداً أبعاد الأزمات العاصفة ،مستثمراً تقنية المشهد والاسترجاع ومركّزاً على الحوار ومؤسّسا للحدث الرئيس الذي سيتابع تنميته وتطويره فيما بعد : الإمام عبد الرحمن والشيخ عبد اللطيف والإمام عبد الرحمن والإمام سعود حيث يتشكّل الفضاء الروائي في جوٍ مأزوم اجتماعيّاً (الفقر والفاقة) وسياسياًّ (الخصومة بين الإمامين عبدالله وسعود ) و(مطامع الدولة العثمانية) ودراميّاً (الخلاف والصراع ) وحجاحيّاً (إقناع الشيخ عبد اللطيف للإمام عبد الرحمن بالتنازل لأخيه الامام عبد الله) وعلى الصعيد الفنّيِّ الحدث المفاجئ الذي حوّل مسار الرواية ومسار التاريخ (مولد الملك عبد العزيز) والمفارقة بين الفرح والحزن ( موت الشيخ عبد اللطيف ومولد المك عبد العزيز) وما أحدثه ذلك من تحوّل في الفضاء الروائي كّله . في مرحلة تالية سلّط السارد الأضواء على شخصيّة البطل ، وهي محورالرواية ، واستثمر تقنيات روائيّة تتمثل في : تصوير الشخصيّة وهي تعمل ، أي من خلال حركتها وعلاقتها مع الأخرين والحوار معهم وردّات فعله إزاء الوقائع من حوله واستبطان دخائله عبر الحوار بوصفه أداةً رئيسةً للكشف دون إغفال للوقائع التاريخيّة الكبرى وشبكة الأحداث الفرعيّة مع الحرص على السيطرة على زمامها والمحافظة على ترابطها وصلتها بالحدث الرئيس وعدم تشتّتها ، والمتلقي يلحظ ذلك في حرص الراوي على ربط الوقائع التاريخيّة بالشخصيّة الرئيسة مستثمراً تكنيك السيرة دون أن ينغمس في تفاصيلها الشخصيّة ، حريصا على أن تكون رافداً للحدث الرئيس متصلةً به وعاملاً من عوامل تنميته ، فكانت السيطرة على التفاعل بين السياقين التاريخيّ العام والشخصيّ الخاص مناط الحفاظ على شعريّة هذا العمل الروائي ، وإن بدا ذا طابعٍ تاريخيٍّ تسجيليٍّ محض، فمنظومة الوقائع التاريخيّة بين آل الرشيد والإمام عبد الرحمن ظلّت مرتّبةً في نسق روائيٍّ متكامل دون أن تنزلق في مطبّات التسجيل التاريخي المحض ، وقد تصاعد (الراوي العليم) بالشخصيّة الرئيسة من الأدوار الثانويّة إلى الدور الرئيس الذي نهض به ، فقد كانت وفادته على بعض أمراء الخليج تمهيداً لتوفير الملاذ الآمن الذي سيمكّنُه مستقبلاً من استرداد ملك أبائه عبر تراكمات حدثيّة تتمثّل في التداول على إمارة الرياض بين الطرفين حتى استطاع حسم الموقف والنهوض بالدور التاريخي المفصلي الذي أُنجز على مستوى المنطقة ؛ بل والعالم والتحكّم بزمام الأمر والقيام بالدور الفاعل في صياغة التاريخ وإقامة الكيان الوطني الكبير (المملكة العربية السعودية) لقد عمد الكاتب إلى استثمار تقنيات سرديّة متعددة ، مثل التلخيص والفجوة حين توقف عند مرحلة الاستقرار في الكويت وتصوير نمط الحياة التي كان يحياها الإمام عبد الرحمن خلال عشر سنوات من إقامته فيها ملخصاً نسق الحياة التي كان يعيشها من البيت إلى المسجد ومن المسجد إلى البيت ، وتوقف عند البعد النفسي مصوّرا أبعاده في الدعاء الذي كان يردّده “ اللهم احيِني ما دامت الحياة خيراً لي ، وأمتني ما كان الموت راحةً لي ، الّلهم إن أردت بعبادك فتنةً فاقبضني إليك غير مفتون (ص30) وقد توسّل بأسلوب الاسترجاع حين قدّم حدث فتح الرياض ، ثم عاد لرواية تفاصيل هذا الحدث تفصيلاً ، وفي كل مفصل من مفاصل النموكان يلجأ إلى تقنية المشهد القائم على الحوار الذي من خلاله عمد إلى استرجاع تفاصيل الحدث الرئيس وهوخروج الملك عبد العزيز من الكويت ومعه أربعون رجلاً ، حيت استطاع أن يستردّ الرياض. ولعل التفاتته في الحديث عن أسلوب الخاطف في انتزاع السلطة الذي اتخذه الشيخ مبارك من أخويه في الكويت كان من الوسائل التي أيقظت فكرة الطريقة التي تم بها فتح الرياض فيما يشبه العصف الذهني السريع ، وقد وظّفها الكاتب فنّيا في عملية التحفيز التي من شأنها تصعيد الحدث الروائي ، ثم الإحاطة بكل تفاصيل ليلة الحسم ، وهي في مجملها وقائع تاريخيّة موثّقة ، ولكن الأسلوب الذي تم به وصف وسرد التفاصيل الدقيقة وتوظيفه لكسر أفق التوقع لدى البطل جعل الحدث أكثر إدهاشاً وتشويقاً ، فقد تبين للرجال الذين أرسلهم البطل إلى بيت (عجلان)أنه لا ينام في بيته وإنما في قصر المصمك . ومن مثل هذه المواقف روايته عمّا لجأ إليه الإمام عبد الرحمن من حيلة حينما عرض الهدنة على عبدالعزيز بن الرشيد أتناء وجوده في القصيم ،وهويعرف مسبقا أنه سيرفضها فيدخل في روعه أن خصمه قد سئم من الحرب في الوقت الذي كان يستعد فيه لخوضها ومباغتته (فالحرب خدعة) لأن العثمانيين يقفون من ورائه ثم ب بدأ بهجوم مفاجيءوانتصر عليهم، ويورد لكاتب أوالسارد أبياتاً للشاعر سليمان بن سحمان ، حيث ينزع منزعاً تاريخياً توثيقياً ، فضلا عن استشهاده بآي من الذكر الحكيم ليعزز موقفه ويدل على نهجه. لقد كشف الكاتب في روايته عن الحرب المزدوجة التي خاضها الإمام عبد الرحمن والملك عبد العزيز مع ابن الرشيد والقوات العثمانية ، وعن مهارته في التعامل مع قادتهم ؛ إذ استطاع تحييد العثمانيين حيناً ومغالبتهم حيناً آخر ، وقد قدّم صورة سرديّة لمشاهد تدلّ على ما كان من فتن ومؤمرات ومشكلات في صفوف خصوم الملك عبد العزيز من أمراء آل الرشيد ، وكيف استثمرها بذكاء وحنكة في قتاله ضدهم ومع الذين كانوا يثيرون الفتن، وخصوصاً الأتراك الذين كانوا يحرّضون القبائل ويصطنعون الصراعات ، وقد احتشدت الرواية بالكثير من التفاصيل التي كادت تميل بالرواية إلى التأريخ والتوثيق ؛ ولكنه كان يستدرك في كلّ مرة، كما فعل في الفصل ( الثالث عشر) حين وصف لنا تفاصيل تتعلق ب(أم زيد) المرأة التي كانت تدير شؤون أسرتها وتتعلّم من زوجها أمور دينها كما وصفها حينما زارهم الإمام عبد الرحمن ، وكانت زيارته إيذانا بالشروع ببناء الهِجَر ، وهوتحوّل اجتماعيّ أدى إلى إعادة تشكيل البنية الاجتماعيّة ؛حيث عمل الملك عبد العزيز على توطين البدووتشجيعهم على الاستقرار والاستثمار في الأرض التي يقيمون عليها، ومما أكسب الرواية طابعها الفنّي اهتمامه بالفضاء المكاني ووصفه للأجواء والطبيعة واهتمامه بالجوانب النفسية ونفاذه إلى دخائلها ، وتوظيفه للرسالة بوصفها وسيلة من وسائل التنمية للحدث ، وقد عمد الكاتب إلى ما يشبه التحليل في أسلوبه حين أشار ألى قضيّتين كانتا تزعجان الإنجليز ، وهما التهريب وبناء الهِجَر مستعيناً بذكر التفاصيل التاريخيّة المتعلقة بهذين الأمرين ، ثم حين عمد إلى جلاء الأمر لأحد الشباب الذي حدثه عن قلقه بشأن الأجانب من النصارى فأجابه “ إن مجيء الكفار ومخالطتهم ومعاملتهم بمصلحة وقدومهم على ولي ا؟لأمر لأجل ذلك ليس من الموالاة التي نهى . الله ورسوله عنها” وقد عمد إلى توثيق بعض المناسبات الأدبيّة ومنها للشيخ عبد الرحمن الملق يقول فيها: انظر لشمس الهدى قد أشرقت وصحت من بعد ما غربت في الأفق أزمانا وأشرقت حائل بالعدل وافتخرت والجور زال سريعا بعد أن كانا وفي إطار المشاهد الحوارية والتصويرية عبر الكاتب عن منهجه الروائي الذي يجمع بين الخطاب الروائي القائم على الوصف والسرد والحوار وتقنيات الاسترجاع والاستشراف والرسائل والأخبار وراوح بينه وبين السرد التاريخي الذي يعنى بالحقائق والأخبار .

مشاركة :