بعد سنتين من الحرمان بسبب كورونا، خرجت أخيرا في إجازة هذا الصيف، وطبعا كنت متشوقا جدا لهذه الإجازة من أجل تغيير روتين حياتي اليومية التي تبدأ برياضة صباحية ثم دوام في المكتب حتى السادسة مساء يتخللها لقاءات عمل على نطاق ضيق ثم فترة مسائية محدودة الأنشطة أيضا، وذلك التزاما بالإجراءات الاحترازية. أمضيت أول أسبوع من الإجازة على شواطئ اليونان ثم إيطاليا ولا أخفي عليكم أنني كنت في قمة السعادة، لكن مع بداية الأسبوع الثاني بدأ الملل يتسلل إلي، وتنتابني مشاعر حنين العودة إلى صخب العمل وخوض معارك الحياة بما تجلبه من مفاجآت وفرص، فقررت أن أقطع إجازتي ليوم واحد وأتفرغ لمتابعة بعض الأعمال المتأخرة، وبدأت بقراءة البريد الإلكتروني وإجراء بعض الاتصالات. ورغم أن كل من حولي في اجازتي من الأهل والأصدقاء الذين أزورهم في أوروبا يعني لي الكثير، حتى أن بعضهم حرص على أن تتزامن إجازته مع إجازتي لنستمتع بالوقت سويا، إلا أنه مع مرور أسبوعين من الإجازة شعرت نفسي مرهقا من الفراغ، متعبا من الراحة، ضجرا من التسلية. شعرت بحاجة ملحة جدا لأشغل نفسي بما هو مفيد ونافع لي وللناس من حولي، ولوضع أهداف واضحة تحفزني على النهوض صباحا والمثابرة والاستمرارية في هذه الحياة، فإن لم يكن لديك هدف معين تحبه وتخلص له فلن تجد شيئا سعيدا تستيقظ صباحا لأجله، وتهدر أيامك ولياليك سدى، لا تأخذ ولا تعطي، لا تنفع ولا تنتفع. أخذت وقتا أفكر في الكثيرين ممن أعرفهم ممن قرروا أن يتقاعدوا وكيف يمضون -أو يقتلون- وقتهم الآن، وأولئك المجبرين على العمل رغم عدم محبتهم له ويحاولون التظاهر بالسعادة رغم إدراكهم ومعرفة من حولهم بحقيقتهم. وتذكرت صديقا قال لي إن زوجته وبعد أن كبر الأولاد وشق كل منهم طريقه في الحياة بعيد عن بيت الأسرة ولم لديها مسؤوليات تجاههم وأهداف تعمل معهم على تحقيقها بدأت تخلق في كل يوم مشكلة جديدة لأسباب بعضها تافه، وأضاف صديقي أن الحل الذي اقترحه على زوجته هو أن تجد عملا، ليس لأجل المال بل لملء الفراغ، أو تتطوع لدى منظمة أو جمعية أهلية، وتخلق لنفسها أهدافا جديدة تنهض في الصباح من أجلها، تحبها وتؤمن بها وتعمل بجد وشغف من أجل تحقيقها. وتذكرت أيضا ما قاله صديق لي آخر حول أن العقل الفارغ هو عقل مدمر، فالشخص الذي يعيش على هامش الحياة من السهل انجراره لأعمال الشر، فحياته ليست ذات معنى، وبالتالي يمكن أن يرتكب أي جرم أو أساءة دون الخوف من العقاب حتى لو كان الموت، وربما تسهل أدلجته وغسل دماغه وجره إلى التطرف والإرهاب. وفكرت عندما قررت العام الماضي منح نفسي إجازة لأربعة أيام ابتعد فيها عن العمل وأعيد ترتيب أفكاري وأتفرغ لانجاز بعض الأعمال في المنزل، ولكن في الحقيقة لم أتمكن من الانقطاع الكامل عن العمل الذي يشكل أحد أهم أجزاء حياتي إن لم يكن حياتي كلها، فأنا مرتبط عقليا وعاطفيا بعملي، وأحبه إلى أبعد حد. كانت إجازتي في أوروبا فرصة أيضا لتذكر الناس كيف تعمل وتنتج هناك، ومتابعتهم عن كثب، إنها شعوب بالكاد تنام، الكل يعمل، رجالا ونساء، يمضون وسطيا ساعتين إلى ثلاث ساعات في القطارات والمواصلات يوميا في رحلة الذهاب للعمل والعودة منه، ويعملون لثمان أو تسع ساعات وربما 12 ساعة وأكثر، وعندما تأتي عطلة نهاية الأسبوع يكافؤون أنفسهم بحق، مشتغلين وفقا للمثل Work hard have fun harder. والواقع أن معظم العالم العربي في غفوة، ليس هنالك من أهداف واضحة تحفزه على النهوض صباحا بنشاط، حتى إن جائحة كورونا جاءت بمثابة رحمة لأولئك الناس الذين يميلون لملازمة منازلهم ولا يرغبون في العمل. أتمنى أن يصبح العالم العربي خلية نحل لا تهدأ. حتى لو بدأنا بأفكار بسيطة أو خاطئة أنا متأكد أننا سوف نتخطاها، وفي كل مرة نعيد العمل نعيده أفضل وأفضل، حتى نتميز ويصبح لنا دور في مجتمعاتنا ويصبح لمجتمعنا دور في عالمنا. أنا أعتقد بأن الجوع هو المحرك الأساسي لأي كائن حي بما فيها الإنسان، وليس من الضروري أن يكون الجوع جوعا للطعام فقط، بل ربما يكون جوعا للمعرفة، جوعا للعاطفة، جوعا لتحقيق الذات، وهذا هو المهم بالنسبة لنا كبشر. لقد رتب ماسلو، العالم النفسي الشهير، الحاجات الإنسانية على شكل هرم تمثل قاعدته الحاجات الأساسية وتتدرج تلك الحاجات ارتفاعا حتى تصل الى قمة الهرم حيث حاجات تحقيق الذات ولا يمكن الانتقال إلى حاجة أعلى قبل إشباع الحاجة الأقل، فوضع في قاعدة الهرم حاجات أساسية يشترك فيها الإنسان مع كل المخلوقات مثل التنفيس والطعام والجنس والنوم والتبول، رغم ذلك فرَّق ماسلو بين البشر بناء على درجة الإشباع المطلوبة لكل منهم. أما الحاجات إلى الأمن فيعتمد تحقيقها على مقدار الإشباع المتحقق من الحاجات الأساسية، والإنسان ييسعى إلى تحقيقه له لأولاده، كذلك يسعى إلى تحقيق الأمن في العمل سواء من ناحية تأمين الدخل أو حمايته من الأخطار الناتجة عن العمل، ويشير ماسلو إلى الحاجات الاجتماعية بقوله: إن الإنسان اجتماعي بطبعه يرغب أن يكون محبوبا من الآخرين عن طريق انتمائه للآخرين ومشاركته لهم في مبادئهم وشعاراتهم التي تحدد مسيرة حياته، وأن العمل الذي يزاوله العامل فيه فرصة لتحقيق هذه الحاجة عن طريق تكوين علاقات ود وصداقة مع العاملين معه. وكل هذا يعني أنه كلما ارتقيت في هرم ماسلو للأعلى ابتعدت عن الأمور التي نتشارك فيها مع الحيوانات، وحققنا الأمور التي تميزنا كبشر. لكن كيف أمضيت الأسبوعين الأخيرين من إجازتي إذا؟ لقد قررت متابعة أعمالي عن بعد ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وتوصلت إلى قناعة أن الإجازة يجب ألا تكون أطول من أسبوعين على الأكثر. - رئيس مجلس إدارة مجموعة بروموسفن القابضة
مشاركة :