«فيلسوف إغريقي قديم، عاش قبل ألفي عام كان يعتقد أن الفلسفة ولدت بفضل دهشة البشر، وكان يقول إن كون الإنسان حي، هو شيء من الغرابة بحيث تظهر الأسئلة الفلسفية من تلقاء نفسها» -رواية عالم صوفي، جوستاين غادر، ت: حياة الحويك عطية- كانت باندورا المرأة التي عُرفت بالجمال تقف مشدودة بالفضول أمام الصندوق الذهبي التي أرسله لها زيوس وحذرها من فتحه لأنه سيسبب الشرور إذا فُتح، لكن سؤال الفضول عما هو موجود داخل ذلك الصندوق كان يجذب باندورا نحو باب الصندوق لفتحه وتجاوز كل التحذيرات وكان الخوف يمنعها من قرار فتح الصندوق، ودخلت في صراع ما بين الخوف من ما هو داخل الصندوق والفضول بمعرفة ما هو داخل الصندوق، وفي النهاية انتصرت جاذبية المعرفة على الخوف من المعرفة المحرمة. هذه الأسطورة تحملّ لنا أن إثم الفضول والمعرفة التي قد تتحول إلى شرّ يدمر الإنسان والحياة، وظل هذا الارتباط بين المعرفة والشر يتناقل عبر الأجيال والحقب المعرفية. إن الفضول الذي كان ولا يزال المحرض الأول للإنسان على السؤال الوجودي والسؤال الفلسفي ولعلها منحة الله للإنسان ليستطيع التطور والارتقاء والعلو في الأرض. كان السؤال الصوت الأول الذي منح الإنسان الطمأنينة أكثر من الحيرة؛ لأنه كان يُبدد ظلمة ووحشة المجهول الذي يحيط به، فالسؤال بمثابة الضوء الذي يشق تلك الظلمة ويهدأ خوفه نحو تلك الوحشة، فقدرته على السؤال يعني قدرته على مقاومة تلك الظلمة لاكتشاف الطريق نحو الضوء، قدرته على الفهم ثم المقاومة والتغير. وبذلك أصبح السؤال أول أساس «التوطين «الذي بنى الإنسان في ضوئه منظومة انسجامه مع الوجود الذي يحيط به. كان السؤال ولا يزال هو «ردة فعل» على «فعل المعرفة» فكان البحث عن المعرفة هو الذي يستفز سؤالنا، وتتعدد مقاصد السؤال ما بين التعرّف والتمرد، وقد سبق «التعرّف» «التمّرد» باعتبار أن التمرد هو «معرفة حقيقة المعرفة السابقة»، وهو ما يجعلنا نميز بين السؤال الوجودي والسؤال الفلسفي. فالسؤال الوجودي سبق السؤال الفلسفي لأنه بحث التعرّف عن علاقتنا بالوجود سواء في مستواها العللي أو الكيفي في حين أن السؤال الفلسفي هو البحث عن ماهية الوجود، ماهية العلة والكيفية، حقيقة ما يعتبر حقيقة، حقيقة البطلان، وحقيقة الحق، وستظل هذه الثلاثية الفلسفية لإشكالية الوجود ضمان لحياة السؤال في كل مكان وزمان. فالسؤال الفلسفي ليس محصورا بصلاحية زمانية أو فكرية فطالما هناك تغير ومعرفة متجددة ومفاهيم متمردة على حدود الصلاحية الفكرية سيظل هناك سؤال فلسفي في ذاته وإن تلوّنت أزيائه وتوصيفاته. ليس صحيحا أن السؤال الفلسفي كان يناسب حقبة زمنية من حياة الإنسان عاشها مشدودا نحو غياهب المجهول والغموض والجهل التي أحاطت به، فكان السؤال الفلسفي هو مصباح المعرفة الذي فكك ألغاز ذلك المجهول والجهل وأسس منظومة العلم الذي انتجت الحضارة الإنسانية وأنه كلما تطور العقل المعرفي للإنسان تراجعت حاجته عن ممارسة السؤال الفلسفي. فالضوء مثله مثل الظلمة يثير الشك والسؤال والمعرفة مثل المجهول محفزان للشك والسؤال. إن السؤال الفلسفي هو كما شبهه ديكارت بالقيمة التي يكتمل من خلالها شروط المعرفة التي تميز لنا بين التفاح السليم والتفاح الفاسد الذي يملأ سلة رأسنا. إذن السؤال ممارسة خالدة سواء في صفته الوجودية أو الفلسفية، وكلما تطور العقل البشري زادت حاجة ذلك العقل للسؤال؛ لأن المفاهيم هي حياة تتطور وتتغير بتطور وتغير الإنسان وتجاربه وحضاراته، فمفاهيم مثل القوة والإرادة والحرية والقدرة والانجذاب نحو الغيبي واستبدالاتهم ونظائرهم وأشباههم مازالت مصدر تفاعل مع السؤال الفلسفي حتى اليوم والغد. إن الخلاف والاختلاف حول ما هو يقيني وغير يقيني من الأسئلة الكبرى التي لا تندثر بتطور العلم والمعرفة بل يظهر لها نظائر وأشباه تدخل معترك المنطق الفلسفي وتعيد تدوير السؤال الفلسفي بصيغ مختلفة ووسائط جديدة لتخلص سلة رأسنا من كل تفاح فاسد لا يلتزم بشروط المعرفة. إن فكرة ارتباط تراجع السؤال الفلسفي بتطور النظرية المعرفية هو ارتباط غير سليم؛ لأن النمو والتطور والارتقاء لا يعني الكمال ولذلك يظل السؤال الفلسفي يدور بالبحث فيما الناقص من دائرة عدم الاكتمال ولأننا دوما نسير وسلال رؤوسنا مفتوحة لجذب التفاح الفاسد والسليم!. لا يسعى السؤال الفلسفي إلى إغلاق دوائر المعرفة لإثبات المطلق بل على العكس يسعى إلى إحداث فراغات داخل تلك الدوائر ليظل السؤال الفلسفي حيّا باعتبار المطلق مخالف لقانون الصيرورة هذا القانون الذي تبني عليه الفلسفة نشاطاتها المعرفية، ومفاتيح متاهاتها الفكرية. لذا تظل أهمية السؤال الفلسفي في قيمة الحركة والكشف وليس الحدّ والتعيين.
مشاركة :