يصعب العثور على جائزة أدبية مهمة بفرنسا هذا الموسم لم ترشّح لها رواية التونسي هادي قدّور المتغلبون، والصادرة حديثاً عن دار غاليمار الباريسية، حيث تبدو الأوفر حظاً لنيل جائزة غونكور الرفيعة، والتي ستعلن نتائجها الثلاثاء المقبل. ولا عجب في هذا الاهتمام، فهذه الرواية الضخمة (464 صفحة) تتناول مواضيع مهمة متعددة، بمهارات كتابية وسردية نادرة، وتسلط الضوء بذكاء لافت على مرحلة مفصلية من تاريخنا الحديث لم تنته تداعياتها بعد. أحداث الرواية تدور في مطلع عشرينيات القرن الماضي، في مدينة مغاربية خيالية تدعى نحبس، لن يلبث أن ينقلب نظام الحياة فيها مع وصول فريق سينمائي من هوليوود لتصوير فيلم فيها يؤدي بطولته ممثل يدعى فرانسيس كافارو، وهو عبارة عن زير نساء، إلى جانب زوجة المخرج الشابة الجميلة كاترين بيشوب. ومنذ البداية، تبدو نحبس مقسومة؛ فمن جهة لدينا السكان المحليون وفي مقدّمتهم قائد المدينة (سي أحمد) وابنه الشاب رؤوف الذي حصد المرتبة الأولى في امتحانات البكالوريا الفرنسية ويناضل من أجل إنهاء الاستعمار في بلده، وابنة عمه الشابة الأرملة والمثقفة رانيا. أبطال الرواية ومن جهة أخرى، لدينا المتغلبون، أي المستعمرون الفرنسيون الذين يتحكّمون في مفاصل المدينة، ويحددون قواعد العيش فيها، ويحتقرون سكانها الأصليين، علماً بأن بعضهم ينماز قليلاً عن هذه الصورة، مثل غانتيي. بعد أن كان ضابطا في الجيش الفرنسي، استقر غانتيي في نحبس، وأصبح بسرعة أكبر مالك فيها. نراه في الجزء الأول من الرواية يفاوض الشابة رانيا على قطعة أرض تملكها من أجل زيادة أملاكه. تصوير الفيلم سيجذب فضوليين كثيرين من الطرفين، ومن بينهم الصحافية الفرنسية غابرييل، صديقة رانيا، التي تنتقد بشكل ثابت سياسات بلدها ويقع غانتيي في غرامها. المتغلبون لا يفكّرون إلا في المحافظة على امتيازاتهم، ولذلك سيرون بسرعة في الفريق السينمائي الأميركي، الذي يملك إمكانيات مالية كبيرة، ويتميّز بسلوك ماجن، ويختلط بالسكان المحليين، خطراً يهدد الحياة الهانئة في المدينة، خاصة أنهم على علم بأن بعض أبنائها تحضّرون للثورة عليهم. لكن السكان المحليين مقسّمون بين قوميين وشيوعيين واشتراكيين وتقليديين، من دون أن ننسى أولئك الذين يعملون في السرّ مع المستعمِر، مثل التاجر الثري بلخوجة الذي يشكّل دوره وحده قصة مثيرة ضمن الحبكة العامة للرواية. خلفية تاريخية ومثل شخصيات الرواية وأقدارها، تبدو الخلفية التاريخية للرواية مرسومة أيضاً بدقة، فالسنوات الأولى من عشرينيات القرن الماضي هي تلك التي تلت الحرب العالمية الأولى التي شكّلت فاجعة كبيرة لطرفَي هذا النزاع معاً. فخلال سفر غانتيي إلى فرنسا برفقة رؤوف وكاترين وغابرييل، سنكتشف معهم بلداً مدمّراً كلياً لا نرى في شوارعه إلا أطفالاً ورجالاً مسنين. وكذلك الأمر بالنسبة إلى ألمانيا التي سيزورها الأربعة ولا يشاهدون فيها سوى مدناً منكوبة ومعاقين ومتسوّلين وغضباً عارماً بسبب التعويضات التي فُرضت على هذا البلد وتصرّفات أفراد الجيش الفرنسي فيه، مما سيُشكّل أرضية مثالية لصعود الحزب الذي سيقود هتلر إلى السلطة. ولا ينسى قدّور أميركا في تلك الفترة، فإلى جانب بروز نجمها كدولة عظمى جديدة، يكشف الكاتب لقارئه ذلك الانفصام الذي ما زال حاضراً فيها حتى اليوم بين انحلال وتزمّت، من خلال فضيحة أخلاقية يقف خلفها كوميدي شهير وتجبر الفريق السينمائي على مراجعة سلوكه الماجن. لوحة فنية وفي حال أضفنا قصة الحب التي سيعيشها رؤوف مع كاترين، والعلاقة المثيرة التي ستربط غانتيي بغابرييل، وقصة الجراد الذي سيجتاح مدينة نحبس في النهاية، وحالة التمرد على المستعمر الفرنسي التي ستتبعها، لتبيّن لنا غنى حبكة قدّور التي تجعل من روايته جدارية ضخمة تفتننا بتناغُم خطوطها وألوانها وتفاصيلها الغزيرة. وتكمن قيمة هذه الرواية في الطريقة البارعة التي يخلط الكاتب فيها أقدار عدد كبير من الشخصيات على خلفية أحداث سياسية كبرى ستحدد مسار القرن العشرين بكامله، وفي اعتماده قراءة هذه الأحداث على شخصيات نادراً ما نسمع صوتها، كالمستعمَر البسيط أو المرأة التي تحضر بقوة عبر رانيا المدهشة بثقافتها وحرية تفكيرها، رغم التزامها بتقاليد أبناء مدينتها، وغابرييل النسوية. وتكمن أيضاً قيمة الرواية في رسم قدّور لها، بلغة كلاسيكية سيّالة لا تخلو من طرافة، لوحة واقعية دقيقة للمستعمر الفرنسي في تلك الفترة، يظهر فيها بكل غطرسته وعنصريته ومحدودية فكره وعنفه، ولوحة واقعية أخرى للمغرب العربي آنذاك، يبدو فيها ممزقاً بين تقاليده الألفية ورغبته في معانقة الحداثة.
مشاركة :