تمثل إقامة الدورة الخامسة والعشرين من صالون الجزائر الدولي للكتاب مطلع يناير المقبل فرصة للخروج بقطاع النشر من أزماته الكبيرة. وبالرغم من التحفُّظات التي أبداها عدد من الناشرين بخصوص توقيت تنظيم هذه التظاهرة، إلا أنّ الأغلبية العظمى من الناشرين عبّروا عن سعادتهم بعودة الصالون لكونه يُعيد تحريك المشهد الثقافي الذي أصابه الركود بفعل تداعيات أزمة كورونا التي أدّت إلى توقُّف صناعة النشر وإفلاس عدد من الناشرين. لكن تبقى رهانات قطاع النشر في الجزائر هاجسا مؤرقا وأزماته أكبر من تظاهرة معرض الكتاب. الجزائر – يعيش قطاع النشر والكتاب في الجزائر على وقع سلسلة من الأزمات المتتابعة تدفع به إلى الاندثار، ففي ظل توجه الاستهلاك إلى المأكل والملبس، تدحرجت قيمة الغذاء العقلي والفكري إلى مراتب دنيا بسبب إكراهات تراجع القدرة الشرائية. فقد أرغمت الفرد على الاختيار بين ملء البطون على حساب العقول، وما بقي يكاد الإغلاق الذي فرضته جائحة كوونا أن يقضي على سوق الكتاب، ومنه على أكبر فاعل في السلسلة وهو دور النشر. ولم تظهر أي استراتيجية للحكومة الجزائرية في التعاطي مع القطاع منذ بداية تنفيذ إجراءات الغلق بسبب وباء كورونا. ففي ظل هشاشة شبكة التوزيع ورداءة خدمة البيع الإلكتروني، تكبّدت دور النشر والمكتبات خسائر ضخمة بعد دخول القرار عامه الثاني، بالموازاة مع إلغاء المواسم المحلية والوطنية لبيع الكتاب. الأزمة والكساد عكس بعض الدول التي استثنت القطاع من الغلق، وأبقت على نشاط المكتبات ومراكز التوثيق والأرشيف، مع التشديد على تطبيق إجراءات التباعد، فضلا عن إنشاء منصات لإنقاذ الناشطين في القطاع من الإفلاس، بعدما انفردت شركات إلكترونية كبرى على سوق الإنترنت. وأمام انغماس الفرد الجزائري في كيفيات تحصيل ضروريات الحياة اليومية، بسبب الندرة والغلاء الفاحش للحليب والماء والرواتب والحرائق وأخيرا الخبز، تراجعت أهمية الكتاب كثيرا، فصار من قبيل الترف والبرجوازية، لتجد بذلك المكتبات ودور النشر والموظفين والكتاب تحت طائلة أزمة خانقة. الوضع المتردي نتيجة حتمية لعدم وجود سياسات واضحة وخطط ميدانية لإنقاذ صناعة الكتاب من الركود والكساد ورغم أن الكتاب في الجزائر يعتبر نشاطا موسميا، عادة ما كان ينطلق في شهر أكتوبر من كل عام، ويكون المعرض الدولي للكتاب الدولي، بمثابة الإعلان عن بداية الموسم الثقافي، حيث يعتبر الفضاء الأول الذي يلتقي فيه القارئ والكاتب والناشر والموزع والبائع، فإن خللا واضحا كان يبرز من طبعة إلى أخرى، وهو أن عدد الزوار ولا المبيعات تعتبر مؤشرا على تقدير ثقافة الشارع. فغالبا ما كانت الكتب شبه المدرسية وتفسير الأحلام وحور الجنة وغيرها هي التي تلقى صدى واسعا لدى مرتادي المعرض، بينما تترتب الاختصاصات والاهتمامات الأخرى في الخلف. وفيما كانت الأنظار والمتابعين تتحدث عن النوعية وتحسين صناعة الكتاب وتطويرها، فاجأ قرار الغلق المطبق منذ عامين الفاعلين في القطاع، فبدأ النشاط منذ شهر مارس 2020، في تراجع تدريجي إلى أن دخل في أزمة خانقة، لاسيما مع توقف الفعاليات الثقافية والمعارض المحلية، وحتى الصالون الدولي للكتاب، الذي تقرر تأخير موعده إلى يناير وسط جدل واسع بين الناشرين والقراء وحتى الكتاب والمثقفين. ويرى داود فيلتس مدير دار نشر “فليتس”، أن “جذور الأزمة وكساد الكتاب قديمة وليست وليدة ظهور الجائحة، والبداية كانت منذ خمس سنوات بالضبط حين حذفت ميزانية اقتناء الكتب من ميزانيات المؤسسات التربوية، والتي كانت تدر دخلا معتبرا لدور النشر والمكتبات، ثم إن ظهور الجائحة ومعالجتها بالإغلاق دون مراعاة التداعيات، أدخلا دور النشر في دوامات متعددة خاصة مع عزوف القارئ وتراجع القدرة الشرائية”. وخلال الأشهر الماضية، ومع تخفيف قيود الحجر، نظمت المنظمة الوطنية للناشرين معرضا وطنيا دام عشرة أيام وكان بادرة حسنة خففت أعباء الكساد عن دور النشر، لكن الأمر لم يسر بذات الوتيرة بالنسبة إلى دور النشر الفتية فدار “اكوزيوم أفولاي” الموجودة في أقصى الشرق بمدينة سوق أهراس، وعلى لسان صاحبتها المهندسة خولة حواسنية، اعتبرتها “سنة الركود بامتياز”. ولم يكن المعرض في مستوي تطلعات دور النشر الناشئة، فدور النشر الكبيرة والعريقة كانت الأوفر حظا، مع تراجع الإقبال للزوار وتقلص الطلب، وحتى عامل الجغرافيا له دوره في تفعيل حركية التوزيع والتواجد بمختلف التظاهرات الثقافية بسبب مركزة الفعاليات واحتكار العاصمة والمدن الكبيرة لها، حسب مديرة دار “اكوزيوم أفولاي” خولة حواسنية. واقع مليء بالمفارقات Thumbnail يعتقد رفيق طيبي مدير مؤسسة “خيال” للنشر والترجمة، أن “رواد السوشيال ميديا يتوجهون إلى المحتوى السطحي والمبتذل وتجاهل كل ما يحفز على القراءة، وأهمية الكتاب، مما ساهم بشكل الكبير في تراجع الكتاب والمقروئية، وقد كان موسما صعبا على دور النشر باعتباره موسم الحفاظ على التواجد والاستمرارية بحقل النشر الشائك، والذي انتهت فيه دور النشر الصغيرة والعديد من المكتبات”. وفي نفس المقاربة يذهب كمال قرور مدير “منشورات الوطن” ومكتبة “الفنك”، فيعتبره موسما صعبا وحاسما بالتزامن مع الوضع الصحي العام الذي فرضته الجائحة، وصارت مهمّة فريق دار النشر هو “ضمان البقاء وعدم التراجع، أما بالنسبة إلى المكتبة فمردودها أفضل قليلا من دار النشر، وهذا لاعتمادها على الترويج المستمر للكتب وتقديم تسهيلات للقراء بإيصال الكتب إلى منازلهم مع التخفيضات المستمرة لكسب المزيد من القرّاء، وتوصيل الكتب بالبريد كانت طريقة ناجعة لتخفيف من الكساد والخسارة”. المعرض الدولي للكتاب كان إعلانا عن بداية الموسم الثقافي لكنه يخفي خللا واضحا في نوعية الكتب وهو ما انتهجته الكثير من المكتبات مثل مكتبة السوق وهي أقدم مكتبات مدينة شرشال بمحافظة تيبازة، والتي يرى مالكها أمين سعدون، بأن “فترة الإغلاق لم تؤد إلى خسائر فادحة كون الناس كانت تبحث عن طريقة لتمضية الوقت بعد أن فرض عليها البقاء في المنزل”. وهناك من بدأ مشواره في تجارة الكتب خلال هذه الفترة وازدهرت من خلال منصات السوشيال ميديا مثل أمين من مدينة المدية الذي أسس صفحة على موقع فيسبوك منذ سنة تقريبا خصصها لبيع الكتب القديمة والنادرة بأسعار جد مغرية، مكّنته من اكتساب شريحة واسعة من الزبائن. وتجلت المفارقة بين الجوع المعرفي والجوع البيولوجي خلال فترات تخفيف قيود الإغلاق، وكانت العديد من الدول تحرص على العودة القوية إلى قطاع النشر وتفاعل القارئ مع المنتوج الجديد، استمر اهتمام الفرد الجزائري في تكديس الطحين والزيت خوفا من الجوع، في ظل المضاربة وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، ووجدت تفاعلا إعلاميا كبيرا، بينما لفظت العشرات من دور النشر والمكتبات أنفاسها وانتهت خلال فترة الإغلاق، وتحول معظمها إلى بيع الأدوات المدرسية، أو تحولت مباشرة إلي محلات فاست فود ومطاعم. ويرى مهتمون بعالم النشر أن الوضع الحالي هو نتيجة حتمية لعدم وجود سياسات واضحة وخطط ميدانية لإنقاذ صناعة الكتاب من الركود والكساد، ليس وليد الجائحة بل يمتد إلى تراكمات سابقة، والى عدم الاهتمام الجاد والفعلي بالكتاب من طرف السلطات المختصة، باعتباره منتجا فكريا غير ربحي. ويرى داود فليتس أنه “رغم سياسات الوزارة السابقة التي أتت في ظاهرها داعمة ومنقذة للوضع المتردي الذي آلت إليه صناعة الكتاب، لكنها لم تخرج إلى الشارع والجماهير، وبقيت محصورة في اجتماعات ولقاءات صورية مع دعم قلة من دور النشر علي حساب دور نشر صغيرة تعمل في الممكن والمستحيل من أجل ألا تشهر إفلاسها أو تعلن هزيمتها”.
مشاركة :