عاد رفعت الأسد إلى سوريا بعد رحلة اغتراب قاربت 40 عاماً، قضاها متنقلاً في بلدان أوروبا، ولا سيما فرنسا وبريطانيا، وتمثل عودته نهاية مرحلة وبداية أخرى، تختلفان عن المرحلة الذهبية من حياته الممتدة ما بين عامي 1970 - 1984، التي كان فيها أحد أبرز الأسماء وأكثرها خطورة في عهد حافظ الأسد. رفعت الأسد هو الشقيق الأصغر لرئيس سوريا السابق حافظ الأسد، وقد حظي بمكانة خاصة عنده، ليس نتيجة توصية والدته للشقيق الأكبر بالاهتمام به فقط، بل نتيجة دخول رفعت السلك العسكري؛ حيث انتسب إلى الكلية الحربية بعد وصول «البعث» إلى السلطة عبر انقلاب مارس (آذار) 1963. وشارك بعدها في انقلاب 23 فبراير (شباط) 1966 الذي حمل أخاه حافظ الأسد إلى منصب وزير الدفاع، تمهيداً لقفزته الكبرى للإمساك بزمام السلطة عبر انقلاب نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970. وسط رحلة امتدت ما بين 1963 و1970، تكرس رفعت ضابطاً في الجيش، وبحكم قربه من رأس المؤسسة العسكرية، فقد صار ضابطاً مسؤولاً ومميزاً، وارتقى سلم الرتب بسرعة كبيرة، قاطعاً رحلة الوصول إلى رتبة لواء، وتولي قيادة أهم تشكيل في الجيش السوري المعروف باسم سرايا الدفاع بزمن لا يتعدى 15 عاماً، تضمنت واحدة من الطرائف المأساوية؛ حيث كان الضابط الوحيد في الجيش الذي حصل على دورة أركان، عندما كان في رتبة نقيب، وهي دورة، لم تكن متاحة لعشرات من جنرالات الجيش حينذاك، وهذه بين مؤشرات حضوره ونفوذه العسكري والأمني؛ حيث كانت «سرايا الدفاع» تتولى بقيادته حماية نظام الأسد الأب، وكان حاضراً في المجال السياسي عضواً في القيادة القطرية للحزب، وزاد على ما سبق أن صار له أزلام من أعضائها، وله حضوره في المجال الاقتصادي عبر دور واسع من الشراكات وأعمال السمسرة والتهريب والاتجار بالآثار، وأضاف إلى ما سبق حضوراً ونفوذاً في المجال العلمي والثقافي، إذ أسس وترأس رابطة خريجي الدراسات العليا، التي عملت على ضم أساتذة وخريجي الجامعات، في إطار تنظيمي يشرف عليه مباشرة. إن رحلة ترقي رفعت السريعة، وتمدد نفوذه في كل المجالات، خلقا وقائع متناقضة في نظام أسسه وأداره حافظ الأسد. ففي الوقت الذي كان الأخير يمنع ظهور أي شخص يمكن أن يشكل منافساً أو موازياً له، سمح لشقيقه الصغير، أن يبرز، وأعطاه صلاحيات كاملة في قيادة قوة مسلحة من النخبة، ومدعومة إلى أقصى الحدود بحيث يمكنها أن تدير عملية انقلاب على السلطة، كما أن صعود رفعت واكتشافه نزعة شقيقه الأكبر في تحويل الجمهورية إلى نظام عائلي متوارث، دفعت به للتطلع نحو الإمساك برأس السلطة، التي كانت أكثر تعبيراتها شيوعاً تسميته «القائد» وهو لقب لم يكن يطلق إلا على حافظ الأسد، وعندما مرض الأخير في العام 1984 ظن رفعت أنه آن الأوان للقفز على السلطة، لكن الحذرين من أهلها، ومنهم الابنة بشرى الأسد، وكبار ضباط الجيش والمخابرات، نهضوا ضده ومنعوه من الوصول إلى هدفه، ثم جاءت صحوة حافظ الأسد لتفتح باب تسوية، تتضمن نزع سلطاته، وإخراجه من سوريا، جرى التوصل إليها تحت تأثير عاملين، تدخل والدة الأسدين لرأب الصدع بينهما، وتقدير الرئيس لما قدمه شقيقه من خدمات، حافظت على النظام وضمنت استمراره، ولا سيما في المعركة ضد «الإخوان المسلمين» والجماعات المسلحة، كان رفعت وجنوده أبرز مرتكبي الجرائم فيها، ومنها مجزرة سجن تدمر، يونيو (حزيران) 1980، ومذبحة حماة، فبراير 1982، التي سقط فيها نحو 40 ألف ضحية. لم يكن العفو عن ارتكابات رفعت وطمعه في السلطة الإجراء الوحيد الذي قام به حافظ الأسد، بل سمح له باصطحاب بطانة من المقربين، ومنحه مالاً من خزينة الدولة السورية، وعندما ظهر أن المبلغ أقل من المطلوب، استعان الأسد بمعمر القذافي ليدفع مبلغاً مكملاً بحيث وصلت المنحة إلى شقيقه نحو 400 مليون دولار، وهو مبلغ كبير في تلك الأيام. وبدا من الطبيعي، أن ترحب أوروبا بالمقيم الجديد، لأنه واحد من أثرياء كبار، ولما كان له من نفوذ، إذ كان في منصب نائب الرئيس للشؤون الأمنية، واختار رفعت الاستقرار في مثلث بريطانيا وفرنسا وإسبانيا، موزعاً حضوره بينها وأكثر استثماراته فيها، مقاربة لفكرة شائعة قد تكون تسربت إليه من أوساط سوريين، يكررون أنه لا يجوز وضع البيض كله في سلة واحدة. رفعت الأسد الذي عاش تجربة طويلة في خرق القانون وتجاوزه في سوريا، كان من المستحيل عليه الالتزام بالقانون في الدول الأوروبية، التي عاش فيها، وارتكب فيها كثيراً من المخالفات، بينها عمليات فساد وتهرب ضريبي، وغسل أموال، وغيرها، ولم يستطع الصمت «الرسمي»، الذي استمر نحو عقدين من السنين، التغطية على الجرائم، فتم فتح كثير من الملفات، ثم جرى إغلاقها بطرق متعددة، قبل أن تتدخل منظمات واسعة النفوذ، بينها منظمة الشفافية الدولية، وتفتح ملفاته في كثير من البلدان في السنوات الماضية، وكان آخرها ما جرى في فرنسا؛ حيث أيدت محكمة الاستئناف في باريس في سبتمبر (أيلول) 2021 حكماً قضائياً، يقضي بسجن رفعت الأسد 4 سنوات بجرائم، تشمل غسل الأموال ضمن عصابة منظمة، واختلاس أموال عامة في سوريا، فضلاً عن مصادرة أصول له بقيمة 90 مليون يورو، وفتح هذا التحول الباب على اتهامات لرفعت الأسد تعود لفترة وجوده في سوريا، ومنها اختلاس أموال عامة، وشبهة ارتكاب جرائم حرب لدوره في مجازر ثمانينات القرن الماضي، والأخيرة جوهر قضية ضد رفعت في سويسرا حالياً. رفعت الأسد الذي خرج من سوريا بموافقة شقيقه حافظ ومساندته المالية، سعى في مراحل مختلفة للقيام بدور المعارض للنظام، فأسس تنظيماً، وأطلق مجلة، ومحطة فضائية، ودفع أنصاره لتحركات مسلحة محدودة في اللاذقية جرى قمعها بشدة، ما جعله يدرك عجزه عن مواجهة سلطة حافظ الأسد، فانكفأ، ثم جدد معارضته لصعود بشار بعد موت والده، مدعياً أنه الأحق بالسلطة، لكنه انتهى مرة أخرى إلى الانكفاء، قبل قيامه بانتخاب بشار الأسد في العملية الانتخابية الرئاسية الأخيرة. وسط خطورة ما صار إليه وضع رفعت بعد الحكم عليه، وما سيليه من دعاوى وتحقيقات ومحاكمات، جاءت عودته إلى سوريا في عملية تمت بتوافق روسي فرنسي مع نظام الأسد، كان من ثمارها أنها جنّبت رفعت السجن في فرنسا، وخلصت الأخيرة من عبء سجنه، وقد كان صاحب مكانة لدى الدولة الفرنسية، إذ منحه الرئيس فرنسوا ميتران عام 1986 وسام جوقة الشرف، واستفاد نظام الأسد من عودته باعتباره فتح باب عودة المعارضين، وباعتبارها تدفع ما تبقى من أنصار ومؤيدي رفعت داخل الطائفة للالتفاف حول النظام، لكن ثمة شكوكاً بأن النظام يقبل بما سبق ثمناً لمنح رفعت فرصة النجاة مما كان ينتظره في فرنسا وفي كل أوروبا.
مشاركة :