(عمود الشِّعر العَرَبي/ عمود القِيَم العَرَبيَّة) ناقشْنا في المساقات السابقة تقنية الاستثناء، التي تجلَّت لدَى (المتنبِّي) في قصيدته التي رثى بها أخت (سيف الدَّولة). ورأينا كيف أنَّ السيِّدة المرثيَّة، هي- بزعم الشاعر- كـ(أُمِّ سيف الدَّولة)، ليست بأُنثى كالنِّساء، وإنْ كان ظاهرها يوهِم بأنها امرأة! ذلك لأنَّ العقل ذُكوري، أساسًا، حسب فلسفة (أبي الطيِّب)، التي توسَّع فيها من بَعده تلميذه النجيب، الموصوف بـ»فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة!»: (أبو العلاء المعرِّي)، توسُّعًا فاضحًا، في قصيدة الوَأْد التي أشرنا- في المساق الأول من هذه السلسلة حول «المرأة في التراث»- إلى أنها البرهان على أن وَأْدَ النساء، لا وأد البنات فقط، لم ينته بعصر ما قبل الإسلام، بل استمر، وإنْ نظريًّا وشِعريًّا، بعد الإسلام، كما يشهد بذلك الشِّعر. كان ذلك هو موقف المعرِّي المزري من المرأة. ومع هذا، ولأنَّ الثقافة العربيَّة ثقافة مؤدلجة، ومهما كان توجُّه المثقَّف، ولأنَّ معضلتها الكأداء تكمن، لا في عمود الشِّعر العَرَبي، بل في عمود القِيَم العَرَبيَّة، فستجد الخطاب الحداثيَّ- منذ (أبي تمَّام) إلى (أدونيس)- خطابًا رجعيًّا جِدًّا، بمقاييس العَقْل والعَدْل، ومن حيث القِيَم الحضارية السَّويَّة، وإنْ ادَّعَى الحداثة، وسواء أتعلق الأمر بالمرأة أم تعلَّق بقيم الحياة الاجتماعيَّة كافَّة. وكنَّا قد تطرَّقنا إلى موقف أبي تمَّام في الحلقة الثانية من هذه السلسة. فماذا عن أدونيس؟ هو، على سبيل المثال، يمجِّد (المعرِّي) دائمًا، تمجيدًا مطلَقًا، وبلا تحفُّظ. تمامًا كما يمكن أن ترى السَّلَفيَّ يمجِّد (ابن تيميَّة) تمجيدًا مطلَقًا، وبلا تحفُّظ، رافعًا مقامه عن البشريَّة، بما فيها من مواطن لا مفرَّ لها من النقد. كذلك يفعل أدونيس حينما يكون الحديث عن أبي العلاء، والشواهد المسجَّلة بالصوت والصورة يجدها المتابع حيثما ولَّى نظره. لماذا؟ لأن خطاب حداثيِّينا، غالبًا، تقليديٌّ أصوليٌّ متعصِّبٌ بدَوره، غير عِلمي، ولا يَصدر عن فكرٍ مستقلِّ، ولا عن بحثٍ يحترم المنهج. وما تصلح ثقافةٌ بوجود مرسِّخي ذاك الخطاب وناشريه تحت الأضواء العامَّة. وإنَّما مصدر إعجاب صاحبنا بالمعرِّي- إلى تلك الدرجة منقطعة النظير- هو بيتٌ يكرِّره، ولا يسأم من تكراره، في كلِّ لقاء وحوار، حتى يكاد يُلقيه على كلِّ من ألقى عليه السلام: اثنانِ أهلُ الأرضِ: ذو عَقْلٍ بلا دِينٍ، وآخَرُ دَيِّنٌ لا عَقْلَ لَهْ! وإذا عُرِف سبب الإعجاب بطل العَجب! وهو يفعل هذا كأنه اكتشف اكتشافًا خطيرًا. مع أن تلك قراءةٌ عتيقة، مغلوطةٌ مغالطة، لا جديد تحتها، تُردِّد ما سُبِقَت إليه قبل نحو مئة سنة، من قِبَل المفكِّر المصري (إسماعيل مظهر عبدالمجيد، 1861- 1962)(1)، في بحث له نشره 1926، تحت عنوان «معتقد أبي العلاء في الدِّين والخالق». بل قبل هذا بقرون، ممَّن كانوا يرمون أبا العلاء قديمًا بالإلحاد. وأدونيس يستشهد بالبيت مقتطَعًا من سياقه الداخلي من القصيدة، ومن سياقه الخارجي من فِكر أبي العلاء؛ كي يُسقِطه إسقاطًا على ما يريد، كما يريد، وإلَّا لو لم يفعل، لما بدا فيه ذلك الشاهد الصارخ على ما يرمي إليه ويوظِّفه لأجله. يقول المعرِّي(2): إنْ هَلَّلَتْ أَفواهُكُم، فَقُلوبُكُمْ ونُفوسُكُمْ دونَ الحُقوقِ مُهَلّلَةْ آلَيتُ ما تَوراتُكُم بِمُنيرَةٍ، إِنْ أُلفِيَتْ فيها الكُمَيتُ مَحَلَّلَةْ لا تَأمَنوا بَرْقَ الغَمامِ؛ فَإِنَّما تِلكَ السُّيوفُ مِنَ القَضاءِ مُسَلَّلَةْ قالَ اِفتِكارٌ في الحَوادِثِ صادِقٌ، جَعَلَ الصِّعابَ مِنَ الحِذارِ مُذَلَّـلَةْ: (هَفَتِ) الحَنيفَةُ، والنَّصارَى (ما اهتَدَتْ)، ويَهودُ (حارَتْ)، والمَجُوسُ (مُضَلَّلَةْ) اثنانِ أهلُ الأرضِ: ذو عَقْلٍ بلا دِينٍ، وآخَرُ دَيِّنٌ لا عَقْلَ لَهْ! فهل في هذا شاهدٌ على ما يُستشهَد به عليه؟ ليس من شأن الشاعر أن يشرح مُراده، على كلِّ حال، ولا من شأن الناقد أن يستجوبه، أو يحمِّل شِعره ما لا يحتمل ظاهرُه، بما هو شِعرٌ من ناحية، وبما تُعْرِب عنه ألفاظه، من ناحيةٍ أخرى، وإنْ لم يكن من جنس الشِّعر. إنَّ غاية ما تصوِّره الأبيات تلك المأساة العامَّة- التي شهدها الشاعر في معاصريه- من النفاق واختلال الموازين. منتقِدًا أَتباع الدِّيانات جميعًا، بما في ذلك «الحَنيفيَّة»، التي «هَفَتْ»، كما قال. ومعنى كلمة (هفا)، في مثل هذا السياق: ارتكاب هَفْوَة، أي زلَّة صغيرة، عن غير قصد. وقد رتَّبَ الشاعرُ أصحابَ الدِّيانات، تاريخيًّا، وبحسب ما يراه من بُعدها عن الحق، من الأدنى إلى الأقصى. عائبًا فيها الاثنين معًا: ذا العَقل بلا دِين، وذا الدِّين بلا عَقل . مقدِّمًا في التثريب (ذا العَقل بلا دِين)؛ لأنَّ كون الدَّيِّن «لا عقل له» أقل، وإنْ كان أغرب؛ فالأصل أنَّ من شروط التديُّن العَقل. وهو تقديمٌ لم يأت عن ضرورةٍ شِعريَّةٍ؛ فقد كان بوسعه القول: اثنانِ أهلُ الأرضِ: ذو دِينٍ بِلا عَقْلٍ، وَآخَرُ عاقلٌ لا دِينَ لَهُ وللتقديم والتأخير دلالتهما البلاغيَّة. هكذا تلعب الإديولوجيات بالعقول، وتبعث على انتقاء النصوص وتدليس المعاني. وفي المساق التالي نواصل القول في هذا الضرب من القراءات الرغبويَّة، القديمة الحديثة، التي إنَّما تفتِّش في الماضي عما تَطرَب له؛ لتؤيِّد به عقيدتها هي، ذات الأصوليَّة العوراء البديلة، فإذا هي تضطرها إلى أن تُغمِض عينًا وتفتح أخرى. - - - - - - - - - - - - - - - (1) انظر: (2017)، تاريخ الفكر العربي، (المملكة المتحدة: مؤسسة هنداوي)، 109- 115. (2) المعري، (1992)، شرح اللزوميات، تحقيق: منير المدني وزينب القوصي ووفاء الأعصر وسيِّدة حامد، بإشراف ومراجعة: حسين نصَّار، (القاهرة: الهيئة المِصْريَّة العامَّة للكتاب)، 2: 451. (3) هذا المقال جزء ثامن من ورقة بحثٍ حِواريَّةٍ قُدِّمت في (الصالون الثقافي بنادي جُدَّة الأدبي الثقافي)، مساء الأحد 28 فبراير 2021، بإدارة: (الشاعرة جواهر حسن القرشي). للمشاهدة على موقع «اليوتيوب»: https://www.youtube.com/watch?v=ZSZF936qzs
مشاركة :