أمام احتفاءٍ كبيرٍ من القرّاء والمثقفين، وحضور لافت في ندوة جماهيرية ضمّت العديد من الأدباء والكتّاب، قدّم الروائي الجزائري واسيني الأعرج لقاءً حواريًّا لجمهوره في الكويت، تحت مظلة مشروع تكوين للكتابة الإبداعية. افتتح الروائي حواره بالحديث عن طفولته وبداية تعلّمه للغة العربية، حيث كانت المدارس في الجزائر آنذاك تدرس بالفرنسية فقط، فوجد نفسه وبتشجيعٍ من جدته مواظبًا على حضور الدروس القرآنية، والتي كانت تبدأ بعد صلاة الفجر حتى وقت العمل الرسمي في مدرسته النظامية. وما زاد تعلقه باللغة العربية هو عثوره على كتاب ألف ليلة وليلة في صدفةٍ أقرب ما تكون إلى خطّة محكمة الترتيب من القدر ليتعرف على عالم الأدب، فمنذ تلك اللحظة بدأ فيه هذا الشغف بالاتقاد. وفي موجةٍ من أسئلة الجمهور وإجابات الروائيّ، كان اللقاء أشبه بلوحةٍ أو مشهدٍ سينمائيٍّ، تنوّعت فيه الأحاديث بين مسيرته الروائية، وعمله الأكاديمي، ورواياته والجوائز التي حصدتها. حيثُ سألته الروائية ليلى العثمان عن سبب إنتاجه الغزير والحجم المتزايد لأعماله الروائية، فأجابَ بأنَّ بعض الكتاب مثل المرأة الولود، وأنه من هذا النّوع، مؤكدًا لها بأنه - بحسب تجربته - لا يجد حجم الرواية عائقًا أمام عملية التلقي. وشارك الروائي إسماعيل فهد إسماعيل بسؤالٍ عن علاقة نشاطه الإبداعي والكتابي بعمله الأكاديمي، فأكّد الأعرج بأنّه ما من قيمة ثقافية لشهادة الدكتوراه، وأنّه حرص على نيلها حتى يضمن لنفسه الاستقلال المادي والحرية الكافية للكتابة، قائلا: "ليس لديّ رغبة لأن أقع تحت رحمة ناشر أو مؤسسة ما، فاتجهت إلى العمل الأكاديمي لأحقق استقرارًا ماديًا". وردًا على سؤال الروائي طالب الرّفاعي عن دور الكتّاب من أصحاب الخبرة في دعم وتوجيه الكتّاب الشباب، قال الأعرج: "الكتابة حالة سخاء، وعليك أن تؤمن بأنّ الكاتب الشاب قد يتجاوزك، وإذا كان الكاتب الكبير لا يستطيع قبول ذلك، فهو ليس كبيرًا". ونوّه الأعرج عن عددٍ من الأسماء الروائية الشبابية اللافتة في الوطن العربي، ذكر منها الروائي لخوص عمارة من الجزائر، وسعود السنعوسي من الكويت، وحمّور زيادة من السودان. وفي مداخلة للروائي سعود السنعوسي، وجّه فيها سؤالا للضيف عن مدى ما نجح في تحقيقه في كتابه "سيرة المنتهي" من مصالحة مع علاقاته المعلقة ونهاياته المفتوحة، أجاب الأعرج بأنّه يشعر بأنه قام "بتصفية حساباته" مع الجميع من خلال هذا الكتاب، وعلى هامش ردّه ذكر بأنَّ وجد كتابة السيرة بمثابة مرآة يقف أمامها الكاتب، حيث عليه أن يكون صادقًا مع نفسه لكتابة الأشياء كما يراها، لا كما يريدها. وأنه تصالح أخيرًا مع فكرة أنّه عاش في هذه الحياة كما اشتهته.. ولكنّه في المقابل كتبها على النحو الذي اشتهاه. وفي حديثه عن الجوائز الأدبية قال: "في العالم العربي لا تتوفر مؤسسات تروّج للنصوص دعائيًا، فيبقى أمل النص الوحيد هو الفوز بجائزة". ومما قاله عن النقد الأدبي أنَّ "الحركة النقدية العربية تقليدية حتى لو دخلت مضمار الحداثة". وعلى صعيدٍ آخر، قدّم الروائيّ واسيني الأعرج في المساء ورشة عملٍ عن كتابة الرواية التاريخيّة، امتازت بديناميكيّة عمليّة زادت من تفاعل المشتركين واستفادتهم. وعلى مدى ثلاثةِ أيام قُسِّم موضوع الورشة إلى ثلاث مراحل؛ في اليوم الأول تحدّث الروائي عن خواص الرواية التاريخيّة وسماتها، والواجب الملقى على عاتق كاتبها، مؤكدًا أن الرواية التاريخيّة تتطلّب جهدًا مضاعفًا، جهد الكتابة الإبداعية من جهة، وجهد البحث والتقصّي للتاريخ من جهةٍ أخرى. يقول: "أجد من وظائف الكاتب أن يسيّر التناقضات، وأن يسائلها بعمق، فعندما أكتب روايةً تاريخيّة عليّ أن أرى المادة التاريخية من كل الأوجه، ولا أختزلها في وجهٍ واحد. وهذا يعني أن تسمع الحقيقة ممّن تحب وممّن لا تحب على السواء.كما عليك أن تشكّك دائمًا في كل حقيقة تاريخيّة معطاة، وأن تضعها موضع تساؤل." وأكّد الأعرج بأن "الرواية التاريخية في الوطن العربي لم تبدأ بشكلٍ جيّد، لأن طرحها في الأساس كان تعليميًا"، وناقش مع المشاركين نموذج الروائي اللبناني جرجي زيدان في كتابة الرواية التاريخية. في اليوم الثاني تطرّقَ إلى الشخصية التاريخيّة وكيفيّة بنائها وتفعيلها في وسط مناخ الرواية، وبيّن كيف ومتى يقتبس الكاتب من التاريخ المدوّن ومتى يستقرئ رؤيته الخاصة في تحليل الأحداث وتأثير الشخصيّة عليها، مستخدمًا شخصيات روايته "الأمير" كمثال. وحذّر الأعرج من أن تتحوّل الرواية التاريخية إلى مهرب من الحاضر، وعجزٍ عن معالجة الرّاهن، مؤكدًا بأن القيمة الحقيقية للرواية التاريخية هي في قدرتها على إضاءة الحاضر وتفكيكه وقراءته. وفي اليوم الثالث والأخير تحاور الروائيّ مع المشتركين حول الرواية التاريخية بشكل خاص، والكتابة الإبداعية بشكلٍ عام، في حلقةٍ نقاشية أجاب فيها على استفسارات وتساؤلات المشتركين. واختتمت الورشة بتكريم الروائي من قِبَل فريق تكوين ومشتركي الورشة في تفاعل يؤكد مدى نجاح هذه التجربة واستمتاع الجميع بصحبة الروائي والاستفادة منه. قدّمت الورشة برعاية استراتيجية من وزارة الدولة لشئون الشباب، وأقيمت في مركز اليرموك الثقافي التابع لدار الآثار الإسلامية، كما أقيمت الندوة في منصة الفن المعاصر (كاب).
مشاركة :