قال أبو عبدالرحمن: ومما يُستأنس به ويعتمد أحياناً الكتب التي تتضمن عدداً من المؤلفات کـ(موسوعة ابن عروة الدمشقي)، و(شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد، و(الأشباه والنظائر) للسيوطي، و(خزانة الأدب) لعبدالقادر، وكتاب (أسواق العشاق) للبقاعي.. وقد تضمن الأخير كتاب (مصارع العشاق)، و(الواضح المبين في ذكر من استشهد من المحبين) لمغلطاي، و(جميع الحكايات من منازل الأحباب ومنازه الألباب) لشيخه الشهاب.. انظر كتاب أسواق العشاق، ورقة 2/ب؛ وإنما قلت يُستأنس بها للأسباب التي ذكرها الشيخ عبد السلام هارون بقوله: (وقد اهتدى بعض الأدباء) هو الأستاذ حسن السندوبي في رسائل الجاحظ ص1 إلى 66 (هارون)) إلى نصوص من كتاب (العثمانية) للجاحظ، ونشرها مع الرد عليها لأبي جعفر الإسكافي.. نقل ذلك كله من (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد؛ وكنت أحسب أنّ تلك النصوص تمثّل على الأقل نموذجاً من الأصل، ولكن عندما وقعت إليّ نسخة (العثمانية) المخطوطة تيقنت أنّ ما فعله ابن أبي الحديد لا يعدو أن يكون إيجازاً مُخِلاً لنص الجاحظ بلغ أن أُوجزت صفحتان منه في نحو ستة أسطر (انظر مثلاً الفقرة السادسة من كلام الجاحظ في (العثمانية) ص6 من (رسائل الجاحظ) للسندوبي وقارنها بما في نشرتي للعثمانية 27: 44- 31: 5).. وكذلك كان يفعل الأقدمون ينقلون النصوص أحياناً وتكون لهم الحرية التامة في التصرف فيها وترجمتها بلغتهم أيضاً، إلا إذا حققوا النقل ونصوا على أنّ هذا هو لفظ المنقول، فيقولون مثلاً: انتهي بنصه، فتكون مسؤوليتهم في ذلك خطيرة؛ إذ حمّلوا أنفسهم أمانة النقل، فنشر أمثال هذه النصوص ودعوى أنها محقَّقة يعدّ خطأً جسيماً في فنّ التحقيق وفي ضمير التاريخ.. انظر كتاب تحقيق النصوص ونشرها، ص 29؛ ومن طرق التوثيق والتخريج أن يُرجع لمؤلفات للمؤلف كانت اختصاراً للكتاب المحقق، أو كان الكتاب المحقق اختصاراً لها، والحرص على مختلف النسخ؛ فإنّ بعض النسخ كالطبعة الثانية المنقحة.. قال الدكتور مصطفى جواد: (وإذا عثر الباحث المحقق على أصل الكتاب بخط مؤلفه أو نسخة مضبوطة منه فلا يقنع بذلك، فإنّ من المؤلفين من ألّف كتابه مرتين أو ثلاث مرات كما هو معلوم من كتاب (التنبيه والإشراف) للمسعودي (ت 245 هجرياً) وكتاب (الكامل في التاريخ) لعز الدين بن الأثير (ت 630 هجرياً)، و(ذيل تاريخ بغداد) لجمال الدين بن الدبيثي (ت 637 هجرياً)، و(وفيات الأعيان) لشمس الدين بن خلکان(ت 681 هجرياً)... قال المسعودي في آخر كتابه (التنبيه والإشراف): وقد كان سلف لنا قبل تقرير هذه النسخة نسخة على الشطر منها، وذلك في سنة أربع وأربعين وثلاثمئة، ثم زدنا ما رأينا زيادته وكمال الفائدة به؛ فالمعوّل من هذا الكتاب على هذه النسخة دون المتقدمة.. انظر كتاب تحقيق النصوص ص120.. وقال الشيخ عبد السلام هارون: (ومن ذلك ما صنعه أبو عمر الزاهد (غلام ثعلب) الذي ألّف كتابه ست مرات.. (انظر ابن النديم 113-114 (هارون)) يزيد في كل منها شيئاً عند قراءتها عليه، وأملى على الناس في العرضة الأخيرة ما نسخته: قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد: هذه العرضة التي تفرّد بها أبو إسحاق الطبري آخر عرضة أسمعُها بعده، فمن روى عني في هذه النسخة هذه العرضة حرفاً واحداً ليس من قولي فهو كذاب عليّ، وهي من الساعة إلى الساعة من قراءة أبي إسحاق على سائر الناس، وأنا أسمعها حرفاً حرفاً.. انظر تحقيق النصوص ونشرها ص27.. وقال: (وهنا تعرض مشكلة المسودات والمبيضات، وهو اصطلاح قديم جدًّا، ويراد بالمسودة النسخة الأولى للمؤلف قبل أن يهذبها ويخرجها سوية؛ أما المبيضة فهي التي سويت وارتضاها المؤلف كتاباً يخرج للناس في أحسن تقويم؛ ومن اليسير أن يعرف المحقق مسودة المؤلف بما يشيع فيها من اضطراب الكتابة، واختلاط الأسطر، وترك البياض، والإلحاق بحواشي الكتاب، وأثر المحو والتغيير، إلى أمثال ذلك، ومسودة المؤلف (إن ورد نص تاريخي على أنه لم يخرج غيرها) كانت هي الأصل الأول، مثال ذلك ما ذكره ابن النديم.. (انظر الفهرست ص 92 (هارون)) من أن ابن دريد صنع كتاب (أدب الكاتب) على مثال کتاب ابن قتيبة، ولم يجرده من المسودة، وكذا ورد في (إرشاد الساري شرح صحيح البخاري) للقسطلاني (القسطلاني 1/ 32 (هارون)): أن يحيى بن محمد بن يوسف الكرماني (وهو ولد الكرماني شارح البخاري) صنع أيضاً شرحاً للبخاري سماه (مجمع البحرين وجواهر الحبرين).. قال: وقد رأيته وهو في ثمانية أجزاء كبار بخطه مسودة.. وكذا ذكر القسطلاني شرح شمس الدين البرماوي لـ(صحيح البخاري) المسمى بـ(اللامع الصبيح).. قال: ولم يبيَّض إلا بعد موته).. انظر تحقيق النصوص ونشرها ص 30 - 31 ، وقال: (فإنا نعرف أن بعض المؤلفين يؤلف كتابه أكثر من مرة، وإذا استعملنا لغة الناشرين قلنا: إنه قد يصدر بعد الطبعة الأولى طبعة ثانية؛ فالمعروف أن الجاحظ ألّف كتابه (البيان والتبيين) مرتين، كما ذكر ياقوت في (معجمالأدباء). (16/ 106 (هارون))، وقد ذكر أنّ الثانية أصح وأجود، وقد ظهر لي ذلك جليًّا في أثناء تحقيقي لهذا الكتاب، وأشرت إلى ذلك في مقدمته (مقدمة البيان والتبيين ص 16 -17 (هارون)).. وکتاب (الجمهرة) لابن دريد قال ابن النديم (الفهرست ص91 (هارون)): مختلف النسخ، كثير الزيادة والنقصان؛ لأنه أملاه بفارس وأملاه ببغداد من حفظه؛ فلما اختلف الإملاء زاد ونقص، ثم قال: وآخر ما صح من النسخ نسخة أبي الفتح عبدالله أحمد النحوي؛ لأنه كتبها من عدة نسخ، وقرأها عليه، وهذه سابقة قديمة في جواز تلفيق النسخ؛ ومن أمثلة اختلاف النسخ الأولى ما رواه الخطيب البغدادي (تاريح بغداد 14/ 152-153 (هارون)) رواية عن محمد بن الجهم قال: كان الفراء يخرج إلينا وقد لبس ثيابه في المسجد الذي في خندق عبويه وعلى رأسه قلنسوة كبيرة فيجلس؛ فيقرأ أبو طلحة الناقط عشراً من القرآن، ثم يقول له: أمسك؛ فيملي من حفظه المجلس، ثم يجيء سلمة بعد أن ننصرف نحن، فيأخذ كتاب بعضنا فيقرأ عليه، ويزيد وينقص؛ فمن هنا وقع الاختلاف بين النسختين.. هذا ومن المتواتر في ترجمة الفراء هذا أنه أملى كتبه كلها حفظاً.. لم يأخذ بيده نسخة إلا في كتابين: کتاب (ملازم)، وكتاب (يافع ويفعة).. قال أبو بكر ابن الأنباري: ومقدار الكتابين خمسون ورقة، ومقدار كتب الفراء ثلاثة آلاف ورقة؛ ولعل أظهر مثال لتكرار التأليف ما رواه ابن النديم (الفهرست 113 (هارون)) في الكلام على كتاب (الياقوت) لأبي عمر الزاهد المتوفى سنة 345 هجرياً.. ذكر أنّ هذا الكتاب ظهر في ست صور قضي مؤلفها في تأليفها ما بين سنتي 326، 331، ونص ابن النديم في (الفهرست) (الفهرست 82 (هارون)) على أنّ (نوادر الشيباني) ثلاث نسخ: كبرى وصغرى، ووسطي.. وكذا (نوادر الكسائي) ثلاث نسخ، وكذلك کتاب (نهج البلاغة) الذي ألّفه الشريف الرضي.. ذكر ابن أبي الحديد (شرح نهج البلاغة 3/ 378 (هارون)) في شرحه: أنه ختم كتاب (نهج البلاغة) بهذا الفصل، وكتبت به نسخ متعددة، ثم زاد عليه أن وفّى الزيادات التي نذكرها فيما بعد.. ثم ذكر ابن أبي الحديد بعد ذلك (شرح نهج البلاغة 4/ 506 (هارون)) فصولاً من هذه الزيادات وعقَّب عليها بقوله: واعلم أنّ الرضي رحمه الله قطع کتاب (نهج البلاغة) على هذا الفصل، وهكذا وجدت النسخة خطه؛ وقال: وهذا حين انتهاء الغاية بنا إلى قطع المنتزع من كلام أمر المؤمنين حامدين لله سبحانه على ما من به منَّ توفيقنا لضم ما انثر من أطرافه، وتقريب ما بعُد من أقطاره.. ومقررين العزم كما شرطنا أوّلاً على تفضيل أوراق من البياض في آخر كل باب من الأبواب، لتكون لاقتناص الشارد، واستلحاق الوارد، وما عساه أن يظهر لنا بعد الغموض، ويقع إلينا بعد الشذوذ؛ ثم قال ابن أبي الحديد نفسه: ثم وجدنا نسخاً كثيرة فيها زيادات بعد هذا الكلام قيل: إنها وجدت في نسخة كتبت في حياة الرضي رحمه الله تعالى، وقرئت عليه، فأمضاها وأَذِن في إلحاقها بالكتاب ونحن هنا نذكرها؛ فهذا يبين لك أيضاً أنّ نسخة المؤلف قد تتكرر، ولا يمكن القطع بها ما لم ينص هو عليها، وليس وجود خطه عليها دليلاً على أنها النسخة الأم، بل إنّ الأمر كله أمر اعتباري لا قطعي.. وإذا رجعت إلى تقديمي لـ (مجالس ثعلب) عرفت أنّ تلك المجالس قد ظهرت في صور شتى، وكثيراً ما تتعرض كتب المجالس والأمالي للتغيير والتبديل، والزيادة من التلاميذ والرواة.. جاء في مقدمة (تهذيب اللغة) (مقدمة التهذيب اللغة 1/ 15 (هارون)) للأزهري عند الكلام على الأصمعي: وكان أملي ببغداد كتاباً في النوادر، فزيد عليه ما ليس من كلامه، فأخبرني أبو الفضل المنذري: عن أبي جعفر النسائي عن سلمة قال: جاء أبو ربيعة، صاحب عبدالله بن طاهر صديق أبي السمراء، بكتاب (النوادر) المنسوب إلى الأصمعي، فوضعه بين يديه، فجعل الأصمعي ينظر فيه، فقال: ليس هذا كلامي كله، وقد زيد فيه عليَّ، فإن أحببتم أن أعلم على ما أحفظه منه وأضرب على الباقي فعلت، وإلا فلا تقرؤوه.. قال سلمة بن عاصم: فأعلم الأصمعي على ما أنكر من الكتاب وهو أرجح من الثلث ثم أمرنا فتسخناه له: انظر كتاب تحقيق النصوص ونشرها, ص31-34.. ومن وسائل التوثيق ما يعود إلى إلف المحقق ودربته بأن يكون ذا خبرة بأسلوب المؤلف ومذهبه وثقافته، وقد حدد الشيخ عبدالسلام هارون عناصر هذا الإلف بالتمرس (بأسلوب المؤلف، ومعرفة لوازم ذلك الأسلوب، والوقوف على ما يؤثره من العبارات والألفاظ، وتعرُّف الأعلام التي يديرها في كتابه، والمعارف والحوادث التي يتكرر إيرادها.. وهذا كله بعد تصور العصر الذي عاشه، والبيئة التي اشتملت عليه اشتمالاً، وبدا أثرها عليه في تفكيره وأسلوب تفكيره؛ فالإنسان وليد بيئته.. وأدنى صور التمرس بأسلوب المؤلف: أن يرجع المحقق إلى أكبر قدر يستطيع الحصول عليه من كتب المؤلف؛ وذلك ليزداد خبرة بأسلوبه وظروفه، وليقدر على أن يوجد ترابطاً بين عباراته في هذا الكتاب وذاك، فإنّ معرفة ذلمما يعين في تحقيق المتن والتهدي بصدقٍ إلى الصواب فيه.. انظر إلى كتاب قطوف أدبية ص20.
قال أبو عبدالرحمن: وبهذا المنهج أبطلت نسبة الناسخ والمنسوخ إلى ابن حزم بكتابي (أقوال المؤرخين في ابن حزم) لسابق إلفة لتراثه؛ وبهذا المنهج أبطل الشيخ عبدالسلام هارون نسبة (تنبيه الملوك والمكايد) إلى الجاحظ السابق إلفة بتراث الجاحظ.. قال: (وتعدّ الاعتبارات التاريخية من أقوى المقاييس في تصحيح نسبة الكتاب أو تزييفها؛ فالكتاب الذي تـُحشد فيه أخبار تاريخية تالية لعصر مؤلفه الذي نسب إليه جدير بأن يسقط من حساب ذلك المؤلف، ومن أمثلة ذلك كتاب نُسب إلى الجاحظ وعنوانه کتاب (تنبيه الملوك والمكايد)، ومنه صورة مودعة بدار الكتب المصرية برقم 2345 أدب.. وهذا الكتاب زيف لا ريب في ذلك؛ فإنك تجد من أبوابه: باب نكتٍ من مکايد کافور الإخشيدي ومكيدة توزون بالملتقي الله.. وكافور الإخشيدي كان يحيا بين سنتي 292 و357، والمتقي لله كان يحيا بين سنتي 297 و357؛ فهذا كله تاريخ بعد وفاة الجاحظ بعشرات من السنين؛ وأعجب من ذلك مقدمة الكتاب التي لا يصح أن تنتمي إلى قلم الجاحظ، وهذا صدرها: الحمد لله الذي افتتح بالحمد كتاباً، وفتح للعبد إذا وافا (وافى) إليه باباً.. قسم بين خليقته، فطوروا أطواراً، وتحزبوا أحزاباً، وأنفذ فيهم سهمه، وأمضى فيهم حكمه، وجعل لكل شيء أسباباً؛ فهم دائرون في دائرة إرادته لا يستطيعون عنها انقلاباً، داهشون في بدائع حكمته ومشيئته وإرادته، يعز من يشاء ويرزق من يشاء) 1هـ.. وليس هذا الأسلوب بحاجة إلى التعليق، كما أن الكتاب ليس بحاجة إلى أن نسهب في نفي نسبته إلى أبي عثمان الجاحظ.. انظر كتاب تحقيق النصوص ونشرها ص43-44.
قال أبو عبدالرحمن: وإنما تنسب الإضافات التالية لعصر المؤلف إلى الناسخ، أو الراوي، أو المتملك، إذا صحت نسبة الكتاب إلى المؤلف وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعانُ.
** **
(محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -