لا شيء يلخّص الفشل الذريع الذي مُنيت به واشنطن خلال تورطها في أفغانستان لعقدين من الزمن، وقلة كفاءتها في بناء الدولة في الشرق الأوسط، أكثر من صور الشبان الأفغان وهم يتعلقون بطائرة الشحن العسكرية الأميركية «سي-17» قبل سقوط بعضهم ووفاته من على ارتفاع مئات الأمتار في الهواء. ولم يكن إنفاق 2.3 تريليون دولار من أموال دافعي الضرائب الأميركيين، والتضحية بنحو 2400 جندي أميركي، كافياً للتغلب على التباين العرقي والقبلي والديني من أجل بناء دولة أفغانستان الديمقراطية والصديقة للولايات المتحدة. وفي العراق حدثت قصة مشابهة تماماً، فبعد إنفاق نحو تريليوني دولار، ومقتل نحو 4500 جندي أميركي، تم تسليم العراق إلى إيران على طبق من ذهب. وعن طريق الإطاحة بالرئيس السابق صدام حسين، عدو إيران اللدود، تمكنت الولايات المتحدة من تحقيق ما عجزت عنه إيران خلال فترة الثمانينات من القرن الماضي، حيث أصبحت طهران تسيطر على العراق على نحو لم تحلم به من قبل، فالبرلمان العراقي يصوت لإخراج القوات الأميركية من العراق، في حين أن إيران تدعم الميليشيات الشيعية. وإضافة إلى ذلك فإن الغزو الأميركي للعراق لم يمهد الطريق فقط للتوسع داخل العراق فحسب وإنما في سورية ولبنان واليمن، وسهّل استغلال روسيا ودول أخرى صناعة النفط العراقية المربحة. وأصبحت روسيا المزود الرئيس للأسلحة للعراق. وحدث الأمر ذاته في سورية، حيث تم نشر نحو 900 جندي، وإنفاق مليارات الدولارات، كما تم في أفغانستان والعراق، فشلت واشنطن في رؤية أية ثمار لجهود بناء دولة في سورية. «داعش» بالنظر إلى ظهوره نتيجة لانهيار الدولة العراقية في أعقاب مرحلة حرب عام 2003، انخرط تنظيم «داعش» في حملات إبادة ضد الشيعة، إضافة إلى آلاف السوريين والعراقيين، والتركمان، والإيزيديين، والكلدانيين، والآشوريين. وقام «داعش» بقتل العشرات من المدنيين في تركيا. ولكن الضحايا التي قتلها «داعش» من الأميركيين هما اثنان من الصحافيين، إضافة إلى اثنين من الأميركيين المتعاقدين. وفي الوقت الذي ساعدت الحملة الجوية الأميركية، التي قادتها الولايات المتحدة في الفترة ما بين 2014-2019، على هزيمة «داعش»، وإن كان قد نجم عنها مقتل نحو 10 آلاف المدنيين، إلا أن واشنطن بررت البقاء في سورية بذريعة عودة «داعش» من جديد، وهو الأمر غير المرجح حالياً بالنظر إلى التغير الجيوسياسي في المنطقة. وتمكنت الحكومة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد من استعادة السيطرة على معظم المناطق الواقعة غرب نهر الفرات. وأظهرت تركيا نفسها باعتبارها قوة عسكرية مهمة عن طريق تنفيذ أو تسهيل العديد من العمليات العسكرية الناجحة في شمال العراق، وليبيا، وجنوب القوقاز، وشمال سورية. عن طريق الاعتماد على وكلاء، وأثبتت إيران أنها ستظل قوة عسكرية وسياسية في العراق وسورية. وإذا قيض لتنظيم «داعش» الظهور من جديد، فسيمثل معضلة لكل من تركيا، وسورية، وروسيا وإيران، أكثر من كونه مشكلة لأميركا، وتمتلك المنطقة كل الوسائل لمواجهته. الأكراد يرى كثيرون في الولايات المتحدة ومناطق أخرى أن المنطقة الكردية التي تمتد من مدينة السليمانية في العراق إلى البحر المتوسط تشكل حاجزاً لإسرائيل ضد إيران وتهديدات أخرى محتملة في المنطقة. ومع ذلك فإن الأكراد، خصوصاً قوات سورية الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة، والتي تسيطر عليها القوات الكردية، تبدو كارهة لإفساد التوازن الهش الذي أوجدته مع إيران. وبعد الحديث مع الرتب العليا في قوات سورية الديمقراطية في سورية. قال نيكولاس هيراس من «مركز الأمن الأميركي الجديد»: «ثمة قلق عميق ضمن قوات سورية الديمقراطية بشأن المدى الذي ستقوم الولايات المتحدة باستخدام هذه القوات لمواجهة إيران وسورية»، وفي الواقع عندما تسوء الأمور بالنسبة للأكراد السوريين ستميل وحدات حماية الشعب الكردي إلى حكومة الأسد المدعوم من إيران من أجل الحفاظ على بقائها. وإضافة إلى علاقاتها مع حزب العمال الكردستاني الكردي، يعتبر تحالف وحدات حماية الشعب الكردي مع حكومة الأسد السبب الرئيس الذي جعل الحكومة البريطانية ترفض تقديم الدعم لهم. وينبغي أن نتذكر دائماً أنه في نهاية المطاف، فإن الولايات المتحدة، هي الدولة الغريبة في الشرق الأوسط، وليست إيران. ويدرك قادة قوات سورية الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردي أن تحالفها مع الولايات المتحدة مؤقت، ويدرك قادة هذه الوحدات تماماً أنهم لن يهاجموا إيران لمصلحة إسرائيل. ماذا الآن؟ أميركا لديها الكثير من المآثر، ولكن بناء الدول ليست إحداهن. من فيتنام إلى أفغانستان إلى العراق، كررت واشنطن الحقيقة التي مفادها أنها فاشلة تماماً في قضية بناء الدول. وفي الحقيقة فإن عجز الولايات المتحدة عن فهم آلاف السنوات من الديناميكيات الاجتماعية والقبلية القديمة التي ميزت الشرق الأوسط، واعتمادها المبالغ به على الجيش الأميركي، الذي لم ينجم عنه سوى المزيد من التدمير والفوضى، ودعمها المتهور لوكلائها، ما أدى إلى الإخلال في التوازن الإقليمي. كانت جميعها عوامل أسهمت في فشل الولايات المتحدة في صنع التقدم في الشرق الأوسط. ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي، أضاعت الولايات المتحدة السنوات الـ30 الأخيرة عن طريق التعثر بين نهري دجلة والفرات في العراق وفي جبال أفغانستان، وهي تطارد شبح الإرهاب، الأمر الذي أسهم في استنزافها مالياً، وأتعب الشعب الأميركي من «الحروب المضجرة الأبدية»، وسمح بأن تصبح الصين تحدياً خطراً للهيمنة الأميركية على العالم. وبدلاً من الاستمرار في هذا المسار، والغوص في مستنقع سورية، من الأفضل لواشنطن أن تحوّل انتباهها إلى قضايا أكثر أهمية، وعليها أن تترك القوى الإقليمية تعالج مشكلة لم تكن يوماً مسؤولية واشنطن مطلقاً. الدولة الكردية مستحيلة تقريباً عندما تمكن الحلف الفرنسي البريطاني من تفكيك الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط إلى دول مستقلة بنجاح، لم يهتم بإنشاء دولة كردية لأسباب عدة، منها أن الأكراد كانوا «يفتقرون إلى الوحدة»، وكانوا «لا يمتلكون الكفاءة من أجل التعاون لإنشاء كيان شامل»، وكان انعدام الثقة بين القبائل الكردية كبيراً جداً لدرجة أنها ظلت العقبة الأكبر أمام إنشاء دولة مستقلة في مرحلة ما بعد نهاية الدولة العثمانية. وبالنظر إلى الصراع داخل الشعب الكردي، ووجود تركيا العضو القوي في حلف «ناتو»، بات الأمر واضحاً تماماً أنه لن يقبل بوجود دولة كردية مستقلة على حدوده. وإضافة إلى ذلك، وباعتبار تركيا قوة اقتصادية إقليمية، وعملاقاً سياسياً بالنظر إلى أنها تسيطر على معظم التجارة، وحركة المواد الخام، والأهم من كل ذلك هو نهر الفرات، الذي يعتبر شريان الحياة بالنسبة للدولة الكردية. واعترف السفير الأميركي في سورية في الفترة ما بين (2011-2014)، روبرت فورد، أن «النهج الأميركي الحالي إزاء سورية يفتقر الى نهاية قابلة للتطبيق. ومن دون التغطية الدبلوماسية والعسكرية للأكراد، فإنهم ربما سيواجهون جبهات عدة ضد تركيا وسورية، ولمنع ذلك ودعم الاكراد في الوقت ذاته يجب أن تظل الولايات المتحدة في شرق سورية إلى أمد غير محدد». وتؤكد عملية عفرين التركية أن القوات الكردية يمكن سحقها في غضون بضعة أيام. وكانت قضية بقاء القوات الأميركية في شرق سورية إلى أمد غير محدد بمثابة خيبة أمل بالنسبة لإدارتَي الرئيس دونالد ترامب، والرئيس الحالي جو بايدن، ما أدى إلى التخلي عن حكومة كابول وانهيارها بسرعة لاحقاً. • في الوقت الذي ساعدت الحملة الجوية الأميركية، التي قادتها الولايات المتحدة في الفترة ما بين 2014-2019، على هزيمة «داعش»، وإن كان قد نجم عنها مقتل نحو 10 آلاف من المدنيين، إلا أن واشنطن بررت البقاء في سورية بذريعة عودة «داعش» من جديد. علي ديمرداس ■ أستاذ العلوم السياسية في جامعة ساوث كارولينا تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news Share طباعة فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :