الصحافة والأدب بين الارتزاق الأدبي والإبداع الحقيقي

  • 10/23/2021
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

التقديم: يميز الكاتب والناشر الفرنسي المعروف «برنارد غراسي- Bernard Greasset - 1881-1955» في هذا المقال بين «الكُتَّاب الحقيقيين» و»الكتاب المرتزقين» المتطفلين على المجال الإبداعي؛ حيث يبذل مبدعو النوع الأول من أنفسهم ومن قرائحهم، وعلى حساب راحتهم، من أجل نقل أحسن ما لديهم إلى القارئ (قارئ الجريدة في هذا السياق)؛ بوصفه هدف كل إبداع وغايته، بينما يركز كَتَبَة النوع الثاني على تحقيق الأرباح المادية بغض النظر عن طبيعة ما يقدمونه وجودته، مؤمنين أن قراءَ الجرائد قراءٌ متواضعون لا يجب أن يُقدَّم لهم إلا ما لا يرضون تضمينه كتبهم. من هذا المنطلق، يحاول «غراسي» أن يناقش هذه الإشكالية التي يبدو أنها ستبقى معاصرة ومطروحة في كل زمن وحين، علما أن هذا المقال كتب في شهر سبتمبر من سنة 1937. نص الترجمة: لم يعتد الكُتَّاب أن يمنحوا الجرائد أحسن ما ألَّفوه ودبجته أقلامهم؛ ذلك أنهم يتركوه لإدراجه في مؤلفاتهم التي ينشرونها [على هيئة كتاب]. وبالنسبة إلى البعض منهم، يضنون على تلك الجرائد حتى بمقالاتهم وحواراتهم؛ وكأن كل ما يصدر منهم يمكنه أن يؤدي الغرض [أي النشر] بدون انهمام فعلي بالمسألة. غير أن كلمة واحدة من تداولهم اليومي تفضح، في الحقيقة، أسلوبهم هذا؛ حيث يطلقون على ما يمنحوه للجرائد كلمة: «نقل»؛ قاصدين بذلك، بدون شك، أنهم ينقلون هم أنفسهم ما يقدمونه لقراء جبلوا على الاكتفاء بذلك. لا مراء في أن كلامي يحيل إلى «صانعي الكتب» وليس إلى «الكُتَّاب [الحقيقيين]»؛ كما يتضح من خلاله أني لا أخلط البتة بين هذين النوعين. فأما بالنسبة إلى النوع الأول، ليست الصحافة سوى عمل يضمن ربح بعض المال؛ أي أنها وسيلة لتوسيع مقدار أرباحهم التي يراكمونها من خلال مؤلَّفاتهم، أو على الأقل ربحه في انتظار تحقيق هذه المؤلفات للأرباح المرجوة. وأما بالنسبة إلى النوع الثاني، فهم يدركون قيمة معيشهم اليومي؛ سواء بالنسبة إليهم أو بالنسبة إلى الآخرين. يدركون أن ليس كل ما يَخْبِرونه يومياً صالح لكي يتحول إلى تأليف أدبي، كما أن أحدهم لا يدعي قدرته، بمفرده، على تمييز الأحسن؛ لأنهم يرتاعون من فقْد هذا الأحسن لمجرد أنهم يجدون أنفسهم مجبرين على الاختيار. بالإضافة إلى هذا، ثمة ما يرتبط بنظام الجريدة ويستجيب لحاجيات كل الكُتَّاب المخلصين؛ ومن هنا كل تلك المذكرات الشخصية التي يواظب الخلف على جمعها، ومن هنا -كذلك- كل تلك المراسلات التي يتحرر فيها كبار الكُتَّاب، في المجال الأدبي، من سطوة معيشهم اليومي. في أيامنا هذه، تتيح الصحافة لهؤلاء «الكتاب الحقيقيين» أن يتحرروا من اليومي؛ وذلك في إطار غياب الكمال، وانجذاباً لألق المحاولات الكتابية الأولى. ألا يشعر هؤلاء الكتاب الذين وفدوا على الصحافة بدافع الحاجة إلى هذا الشكل من التعبير بنوع من الامتنان والإجلال اللذين لا يعرفهما الآخرون [الكتاب غير الحقيقيين]، تجاه جمهور الجرائد المستعد على الدوام [لاقتناء الجرائد وقراءتها]، والذي يستقبل إنتاجاتهم العفوية؟ لي اليقين أن لا مبالاة عدد من الكتاب بما يقدمونه لقراء الجرائد إنما ينبع بالأساس من الجرائد عينها؛ أي ممن يشرفون على إدارتها. في فترة سابقة، قال أحد مديري نشر جريدة معينة لطالب من طلبة المدرسة العليا للأساتذة ممن استهلوا مسيرتهم بالصحافة: «انظر يا صديقي، هناك الكثير من الذكاء والحذقة في مقالك هذا. لا تغفل أبداً عن أن جريدة تتضمن كمًّا هائلاً من المعلومات لا تُقرَأ البتة مثلما يُقرَأ الكتاب؛ ذلك أن القارئ يمر على عناوين المقالات صباحا ولَمَّا يغادر فراشه بعد، وإن حدث وغامر أحدهم بتجاوز العنوان لقراءة نص المقال نفسه، فمن أجل أن يتمه يجب أن يكون المقروء مُقدَّما بطريقة بسيطة للغاية، شبه طفولية إلى درجة أن الطفل قد يستطيع المضي في قراءته إلى نهايته. إن الجريدة موجهة إلى أكثر القُرَّاء بلادة وغباءً». يا لَهُ من تصور غريب للصحافة، يبدو لي بعيداً كل البعد عن أفكار «مونتيسكيو - Montesquieu» عن الشيء. من اللازم أن أؤكد في هذا السياق أن هذا التصور للعمل الصحفي لم يكن سائداً سوى لدى الجرائد التي تطمح إلى أن يقرؤها الكل. بيد أن الجرائد ذات التوجه الأدبي لا تسلم كلها من النقد؛ فكثير منها إن لم تكن تنصح ممن تستكتبهم باعتماد طرائق وأساليب تليق بقارئ يُنظَر إليه بوصفه متواضعاً، فهي لا تصرف اهتمامها إلى فحص المواد المقدمة؛ حيث يركزون عنايتهم، بالأحرى، على الأسماء [المشهورة]. وكما تقول عدد من هذه الجرائد ذائعة الصيت، في أيامنا هذه، «حصرية الأسماء» هي طموحهم الأهم. لذلك ففي مراسلاتهم، تحضر عبارة «نحن متمسكون ببقاء اسمك معنا» بشكل متواتر. زد على ذلك أن أصحاب هذه الجرائد يوظفون كلمة «توقيع» التي تفضحهم؛ حيث يقولون [مثلا] «لدينا توقيع»، أو «امنحنا توقعيك». فإذا كان همهم الوحيد هو التوقيعات، فلماذا يبذل الكُتَّاب في المقالات التي يزودونهم بها مجهوداً كبيراً؟ لماذا بَذْلُ كل هذا الجهد؟ بالطبع من أجل القارئ في حد ذاته؛ قارئ الجريدة. لا أتقاسم البتة رأي نخَّاسي الصحافة ممن استشهدت بأحدهم أعلاه. فمهما كانت صعوبة أسلوب «الكاتب الحقيقي»، واستغلاق المواضيع التي يهتم بها، فلا يجب أن يغير طريقته أو مواضيعه حتى يكون في مستوى فهم الجميع، أو لكي يثير إعجابهم. لا يجب أن ينحدر إلى مستواهم؛ بل عليه أن يواصل سُموَّه، مُطَهِّرا لغته -إن استدعى الأمر ذلك -من كل الكلمات شبه العلمية التي تحرره من أن يكون واضحا [كلامه مفهوماً]؛ فلا وجود لجمهور متواضع المستوى؛ بل ثمة كُتَّاب سيِّئون. وبالنسبة إليَّ، أعتقد أنه إذا صيغت المواد بلغة مفهومة، فستكون متاحة لعدد كبير من جماهير قراء الجرائد. مصدر النص المترجَم: Bernard Grasset, «Journalisme et Littérature», in Les Chemins De L’Ecriture, Ed. Bernard Grasset, Paris, 1942, pp: 53-56. العنوان الفرعي من اقتراح المترجِم.

مشاركة :