بعد عامين من اندلاع تظاهرات احتجاجية شعبية غير مسبوقة ضد الطبقة الحاكمة منذ عقود في لبنان، ينظر ناشطو المعارضة إلى الانتخابات التشريعية المقبلة كمنازلة جديدة ضد النظام، مع إدراكهم أن حظوظ إحداث تغيير سياسي ضئيلة في بلد أنهكته أزمات متراكمة، وفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية. في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، شكل إعلان الحكومة عزمها فرض رسم مالي على الاتصالات المجانية عبر تطبيق «واتساب»، شرارة احتجاجات كبرى تخطت الطوائف والمناطق وحتى الانتماءات السياسية، ودفعت مئات الآلاف من اللبنانيين الذين كانوا بدأوا حينها تلمس مؤشرات أزمة اقتصادية، إلى الشارع مطالبين بتنحي سلطة سياسية اتهموها بالفساد والفشل. لكن، على وقع انهيار اقتصادي متسارع قلب حياة السكان رأساً على عقب وصنفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850، وجراء تداعيات تفشي فيروس «كورونا»، تراجع زخم الشارع تدريجياً. وفقد كثر الأمل بإمكانية إحداث تغيير ومحاسبة المرتكبين بعد انفجار مروع في مرفأ بيروت حصد حياة أكثر من مائتي شخص وأصاب أكثر من 6500 ودمر أجزاء واسعة من العاصمة، ويرجح أن سببه أيضاً إهمال وفساد. في المقابل، حافظت المنظومة السياسية على تماسكها وصمودها، رغم التداعيات الكارثية للأزمات المتلاحقة والضغوط الدولية لإجراء إصلاحات من شأنها إنعاش الاقتصاد مقابل دعمها مالياً. كما حافظت على قدرتها على تحريك الشارع، وهو ما أظهرته توترات شهدتها بيروت الأسبوع الماضي خلال تظاهرة لمناصري «حزب الله» و«حركة أمل» اعتراضاً على مسار التحقيق بانفجار المرفأ انتهت بمقتل سبعة أشخاص غالبيتهم من عناصر الحزبين. ويقول الناشط والمحامي فراس حمدان الذي شارك في التظاهرات الشعبية منذ اندلاعها وتولى ملاحقة ملفات متظاهرين تم توقيفهم لوكالة الصحافة الفرنسية: «حاولنا كل شيء مع هذه الطبقة السياسية: تظاهرات مركزية وفي المناطق، اعتصامات أمام مصرف لبنان ومنازل المسؤولين، ملاحقة النواب والوزراء إلى المطاعم، قطع الطرق، لكن أحبطت كل التحركات». ويضيف: «نواجه جيشاً متعدد الأسلحة والأشكال لكن في المحصلة نحن أفراد عزل». ويعتبر الناشط الذي اخترقت رصاصة قلبه خلال مشاركته في تظاهرة أعقبت انفجار المرفأ وجعلته يلازم منزله لأكثر من أربعة أشهر، أن الانتخابات النيابية المقررة في الربيع المقبل، «محطة مفصلية في المواجهة مع النظام لكنها ليست المعركة الفاصلة». ويرى أن على اللبنانيين أن يختاروا بين فريق «يريد بناء دولة وحوار» وفريق آخر «يريد تدمير البلد ويستخدم لغة السلاح والدم»، في إشارة إلى التوترات الأخيرة. وتقول الناشطة زينة الحلو التي شاركت في معظم التحركات الاحتجاجية خلال السنتين الماضيتين، إن التظاهرات في بيروت والمناطق تمكنت من «خلق شرخ أفقي بين الناس والسلطة»، معتبرة أن «لحظة 17 تشرين انتهت... ويجب إعلان انتهائها حتى نتمكن من التأسيس لما بعدها». وترى الحلو، وهي عضو المكتب السياسي في حزب «لنا» الذي أسسته مؤخراً مجموعة من ناشطي الانتفاضة، «علينا الخروج من نوستالجيا الشوارع المكتظة بالمتظاهرين والهتافات» والعمل لتجاوز تحديات تواجهها مجموعات المعارضة لناحية «الاستمرار وإدارة الإحباط والتوقعات». وأفرز الحراك الشعبي مجموعات معارضة وأحزاباً ناشئة، كما جذب أحزاباً تقليدية وحركات انشقت عن المنظومة السياسية على غرار حزب الكتائب. وإن كانت جميعها تطالب بتغيير سياسي، لكنها تتباين في رؤيتها وأساليب عملها لتحقيق هذا التغيير، كما في موقفها من قضايا خلافية رئيسية على غرار سلاح «حزب الله». لكن هذه المجموعات بغالبيتها تتفق على أن الانتخابات التشريعية تشكل ساحة «لمنازلة جديدة في المواجهة المفتوحة» مع الطبقة الحاكمة، وفق ما تقول الحلو، وإن كانت تعرف سلفاً أن «المواجهة صعبة والأدوات غير متكافئة»، لناحية القدرة على تجييش القواعد الشعبية والإعلام والقدرات المادية، وفي ظل قانون انتخابي فصلته القوى السياسية على مقاسها. ويقول الناشط ماهر أبو شقرا من مجموعة «لحقي» المعارضة: «رغم أن الانتخابات لن تغير شيئاً في ظل الظروف القائمة، لكن من المهم المشاركة فيها. إنها محطة في مسار التغيير المتواصل». ولم تحدد مجموعات المعارضة التي يأخذ مراقبون عليها عدم تنسيق جهودها بشكل فعال حول الانتخابات، علما بأنها تدرك، وفق أبو شقرا، أنها ليست «في موقع قوة». ويوضح «عندما تصبح أولوية المجتمع تأمين أبسط مقومات الحياة، يصبح أقل استعدادا للمواجهة» السياسية. وساهمت تداعيات الأزمة الاقتصادية في إحباط الشارع تدريجياً، مع حرمان اللبنانيين من ودائعهم المصرفية وخسارة الليرة أكثر من تسعين في المائة من قيمتها أمام الدولار وفقدان عشرات الآلاف لوظائفهم أو جزءاً من مصادر دخلهم. وبات نحو ثمانين في المائة من السكان يعيشون تحت خط الفقر. وأنعشت الأزمة بطبيعة الحال شبكات زبائنية أرستها الزعامات والأحزاب التقليدية في ظل نظام المحاصصة الطائفي، فوجدت طريقها مجدداً إلى بيوت الناس عبر توزيع المساعدات الغذائية والأدوية والمحروقات وتسيير خطوط نقل عام أو التكفل بدفع فواتير الكهرباء والمياه. ويشرح أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت هلال خشان أن «الناس راهناً في مرحلة تعب اجتماعي وفهموا أن التغيير ليس ممكناً بهذه السهولة»، في حين أن «النظام ما زال سليماً ومتماسكاً». ومع تدهور نوعية الحياة في لبنان وانقطاع التيار الكهربائي ونقص السلع الأساسية وانهيار القدرة الشرائية، اختارت عائلات ميسورة وخريجون جدد الهجرة بحثاً عن بدايات جديدة بعدما فقدت الأمل بالتغيير والمحاسبة. وتقول الباحثة والأستاذة الجامعية ريما ماجد «واهم من يعتقد أن الدورة الانتخابية ستغير النظام» في بلد يتحكم بالسلطة فيه «من يملك السلاح والمال والميليشيات».
مشاركة :