بعد قرون من الإهمال الذي تعرضت له المباني والآثار الإسلامية في إسبانيا، بعد سقوط الحكم العربي فيها عام 1492، انتبه الإسبان إلى أن أوروبا تهتم بالآثار الاغريقية والرومانية، ولا بد لهم أن يهتموا بآثارهم أيضًا، خاصة بعد زيارة الملك فيليب الخامس (1683 - 1746) إلى غرناطة بين 1729 و1733، واطلاعه عن كثب المباني والآثار ذات القيمة التاريخية، ومن ثم من جاء بعده من الملوك، فبدأت حملة اهتمام واضحة في القرن الثامن عشر للتراث الذي ظل منسيا لعدة قرون. وبدأت دراسات وبحوث قامت بها عدة مؤسسات ثقافية، لعل أبرزها ما سعت إليه الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة التي تأسست في مدريد عام 1752، لرصد التراث الأندلسي وتسجيله منذ ذلك الوقت، وقد افتتحت الأكاديمية أخيرا معرض «التراث الأندلسي» لتخليد ذكرى أولئك الذين قدموا خدمات جليلة في تصوير وحفظ ورسم التراث الإسلامي في الأندلس. وكانت الأكاديمية الملكية قد اتجهت في البداية إلى دراسة الألوان والأصباغ في قصر الحمراء بغرناطة، بعد ورود تقارير عن تدهور حالته آنذاك وتعرضه للزوال، فعينت الرسام دييغو سانجيث سارابيا (1704 - 1779) لمتابعة هذه المهمة، فوسعت الأكاديمية اهتمامها ليشمل كل قصر الحمراء، وقد شارك في هذا المشروع القس السوري اللبناني ميشيل كاسيري (1710 - 1791)، ومن ثم تلميذه المستعرب بابلو لوثانو، وعينت الأكاديمية متخصصين آخرين أيضًا لدراسة القصر، فقام المهندسون المعماريون خوسيه دي أرموسيجا (1715 - 1776)، وخوان دي بيجانويبا (1713 - 1774)، وخوان بيدرو أرنال (1735 - 1805) بإعداد دراسات وتصاميم ورسوم لقصر الحمراء. يعلق الدكتور خوسيه ميغيل بويرتا أستاذ تاريخ الفن في جامعة غرناطة وأحد المشاركين في الإشراف على المعرض: «إن وجود مثل هذه التصاميم يدلنا على مدى الوعي الثقافي الذي وصلت إليه المؤسسات الإسبانية في القرن الثامن عشر، وبالذات الأكاديميات العلمية والفنية، كما أن هذه الإنجازات تؤكد لنا أن الرحالة والفنانين الأجانب الذين زاروا إسبانيا خلال القرن التاسع عشر، ونشروا دراساتهم ونتائج رحلاتهم قد اعتمدوا على ما نشرته الأكاديمية الملكية الإسبانية للفنون الجميلة، مثل كتاب (التحف العربية القديمة في إسبانيا) الذي طبع عام 1787، وعام 1804، ثم تبع ذلك نشر بحوث مهمة ضمن مشروع (المباني الأثرية في إسبانيا)، بين 1856 و1882، ومن ضمنها المباني الإســـــــــــلامية». يقول الأستاذ أنتونيو الماغرو وهو أيضًا من المشرفين على المعرض: «في يوم 11 مارس (آذار) من عام 1767 توجهت بعثة انطلقت من مدريد من أجل رسم تصاميم مسجد قرطبة وكتابة الخطوط المرسومة على محراب المسجد، ثم عادوا بعد انتهاء مهمتهم إلى مدريد من أجل إكمال أعمالهم وإعداد دراستهم للطبع.. وقد جاءت تصاميمهم غاية في الدقة وتم طبعها عام 1775». ويبدي استغرابه من إنجاز خوسيه دي أرموسيجا قائلا: «حتى الآن يصعب عليّ أن أفهم كيف استطاع أرموسيجا وهو مهندس معماري ورئيس البعثة، من رسم تصاميم الساحة العامة لحصن الحمراء بهذه الدقة، وهي من جملة التصاميم التي نراها في المعرض». ويتضمن المعرض الذي يستمر حتى يوم 8 من ديسمبر (كانون الأول) المقبل، رسمًا لمحراب مسجد قرطبة، ورسومًا لجرار، وجداريات، وأبوابًا، وكتابات على الأعمدة. وبالإضافة إلى الأهمية التاريخية لهذه التصاميم والـــــــــــــرسوم التي قام بها باحثو القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والتي شكلت الأساس للدراسات التي جاءت بعدها، فان لها أهمية أخرى وهي أنها توضح مـــــــــــــــــدى اندثار أو ترميم تلك الآثار، والتغير الذي حدث بعد ذلك لتلك التحف والآثار؛ ذلك أن بعضها تآكل واندثر، وخصوصًا قصائد لسان الـــدين ابن الخطيب وابن زمرك وابن الجياب، المنقوشة على جدران الحمراء، حيث ســـــــــــــــقطت بعض أجزائها، ولكنّ باحثي القرون الماضية كانوا قد سجلوا ورسموا تســــــــــــجيل بعض تلك الكتابات، وبذلك حفظوا الكثير من التراث الأنـــــــــدلسي من الضياع.
مشاركة :