على مدى العقد الماضي شكّل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مصدر قلق دائماً للكثيرين في الغرب. هذه المخاوف لها بالطبع أساس من الصحة، حيث لا يمكن لأحد إنكار أن المخاوف من بوتين والدائرة المقربة منه قد تزايدت خلال هذه الفترة، سواء كان الأمر يتعلق بضم أجزاء من دولة أخرى، أو دعم ديكتاتور في حرب خارجية أو تسميم المنشقين على الأراضي الروسية، ويبدو أن الكرملين بقيادة بوتين لم يعد يكترث للغرب الذي سمح لعدوانية موسكو بالنمو دون تأثير يذكر على سلوك الرئيس. وينبغي أن يتذكر العالم ما حدث في الأسابيع الأخيرة، فمع ارتفاع أسعار الغاز في جميع أنحاء أوروبا بسبب انخفاض إمدادات الغاز الروسي، وقيام بوتين بقطع العلاقات الدبلوماسية الفضفاضة بين بلاده وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، يجدر بنا أن نتمعن في مدى إساءة صناع السياسة الغربيين لقراءة بوتين، وتجاهلهم استعداده لاستخدام الأسلحة التي بحوزته. وتكشف أزمة الطاقة في جميع أنحاء أوروبا عن أداة قوية للغاية تمنح روسيا نفوذاً قوياً في علاقتها مع أوروبا. ولا يخفى على أحد أن العديد من الدول الأوروبية، بما في ذلك ألمانيا، تعتمد على إمدادات الغاز الطبيعي الروسية. لقد أضر النقص الأخير ليس فقط بالنواحي الاقتصادية الأوروبية، ولكن أيضاً بالجيوسياسية التي تشكلها هذه التبعية. وبينما تفي روسيا بالتزاماتها الحالية الخاصة بإمداد الدول الأوروبية بالطاقة، يقول محللون إنها قد تزيد الصادرات لتساعد على التخزين قبل حلول ما يُتوقع أن يكون شتاءً قارساً، وبالتالي تقلل التكاليف وتهدئ الأعصاب. السؤال من وجهة النظر الروسية هو: لماذا هذا التلكؤ من جهة الغرب؟ لاتزال موسكو تنتظر موافقة الجهات التنظيمية الألمانية لتنفيذ خط أنابيب «نورد ستريم 2»، وهو خط أنابيب مثير للجدل سيربط روسيا بألمانيا ويزود أوروبا الغربية بكميات كبيرة من الغاز. وقال بوتين في منتدى متلفز يوم الخميس الماضي: «إذا أعطت الهيئة التنظيمية الألمانية موافقتها للإمدادات غداً، فإن الإمدادات البالغة 17.5 مليار متر مكعب سيبدأ بعد غد»، وألقى باللوم في أزمة الغاز الأخيرة وارتفاع الأسعار على سياسة الطاقة في الاتحاد الأوروبي. والسبب في أن خط الأنابيب مثير للجدل هو أن الكثيرين يرونه كمشروع له تأثير جيوسياسي لمصلحة موسكو، وهو الخوف الذي لم يهدأ، حتى عندما قال نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك في وقت سابق من هذا الشهر إن «الانتهاء المبكر لإجازة (نورد ستريم 2) سيساعد على تهدئة الوضع الحالي». وبصرف النظر عن المزايا المالية والجيوسياسية التي قد تأتي من اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، فإنه يساعد أيضاً في لعب دور في الرواية السياسية المحلية التي تطورت بمرور الوقت في روسيا، وهي: مهما طال الزمن يظل الغرب يفهم الأمور في روسيا بشكل خاطئ. ويقول كبير المحللين في مجموعة الأزمات في روسيا، أوليغ إجناتوف: «جوهر هذه الرواية هو أن أوروبا والغرب بحاجة إلى إعادة التفكير في سياساتهما المعطلة، سواء كانت تتعلق بالطاقة أو التدخل الأجنبي أو بناء الدولة». ويسترسل «قبل 10 سنوات، كانت هذه الحجة أكثر دفاعية، عندما أراد الكرملين حماية نفسه من انتقادات الحكومات الغربية أو المنظمات غير الحكومية، ولكن الآن يمكن لروسيا أن تجادل بأن السياسات الغربية فشلت في ليبيا وسورية وأفغانستان بشكل سيئ لدرجة أن نهج روسيا كان في الواقع صحيح طوال الوقت». وبطبيعة الحال، يرتبط الفشل الغربي والنجاح الروسي بأولويات كل طرف. يقول بوتين إن سقوط الاتحاد السوفييتي كان «أكبر مأساة جيوسياسية» في القرن العشرين. وعندما تضع هذا في الاعتبار مع الكثير من سلوك بوتين خلال العقد الماضي - ضم شبه جزيرة القرم، وإلقاء الضوء على الغرب بشأن العمل العسكري في سورية من خلال إنكار النشاط الروسي، وإثارة التوترات بين «الناتو» وتركيا - يصبح من السهل تكوين صورة لزعيم يحاول أن يعيد أمجاد بلاده، ويسعده فقط استغلال الفرص التي يوفرها نظراؤه الدوليون الساذجون. ويقول الأستاذ الفخري في «يونيفرسيتي كوليدج لندن»، مارك جاليوتي: «منذ نهاية الحرب الباردة، اعتقد الكثير من جيل بوتين أن روسيا لاتزال في حرب سياسية مع الغرب»، ويضيف «أصبح هذا أكثر حدة بعد ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، ولهذا السبب نرى الآن أن روسيا أكثر راحة في وضعها القوات على الحدود الدولية، ونشر معلومات مضللة وملاحقة المعارضين السياسيين، وبقدر ما يتعلق الأمر بهم، فهذا هو أساس الحرب»، ويختتم بقوله: «بالنسبة للغرب، فإن روسيا مزعجة للغاية، لكنها في الواقع ليست بهذا القدر من التهديد». ويجادل البعض بأن تهديد بوتين المحدود نسبياً ولّد سياسة غربية باهتة في مواجهة العدوان الروسي، وهذا بدوره يعني أن الرئيس الروسي يمكنه القيام بأعمال عدائية ذات عواقب قليلة جداً. من المحتمل أن يصب هذا في مصلحة بوتين، لأنه يسمح له باستخدام هذه الأحداث كدليل على أنه رجل قوي لا يمكن المساس به من قبل الغرب، وهو موضوع استعد له في خطاب ألقاه في نادي فالداي السنوي للحوار في سوتشي مساء الخميس، والذي انتقد فيه الولايات المتحدة بسبب «الفوضى» التي أحدثتها في أفغانستان. ويقول الزميل البارز في «تشاتام هاوس»، كير جايلز، ومؤلف الكتاب الذي سيصدر قريباً بعنوان «كيف تسير روسيا في طريقها»، بأن هذا هو جوهر كل ما يحدث الآن. ويدلل على ذلك بقوله: «أصبحت روسيا أكثر انفتاحاً ومباشرة، فعندما تستغل أزمة الغاز في أوروبا لفرض مشروع خط أنابيب نورد ستريم، أو تقطع جميع الروابط المتبقية لها مع (الناتو)، فإنها تفعل ذلك علانية، ولم يعد هناك ادعاء بأن موسكو تعمل من أجل علاقات جيدة مع الغرب، إنه النمط نفسه الذي نراه محلياً داخل روسيا، أصبح القمع المتزايد الآن علنياً ومتسارعاً، لأن الكرملين لم يعد يهتم». إن الوسائل المحدودة التي لدى الغرب، بالطبع، لا توفر الكثير من الاطمئنان لأولئك الذين يعارضون بوتين داخل روسيا وخارجها. ويقول القائد السابق لقوات الدفاع الإستونية، ريهو تيراس: «بوتين انتهازي، انقسام (الناتو) هو أعظم هدية يمكن أن يحصل عليها»، ويضيف «الاعتماد الألماني على الغاز الروسي يمثل مشكلة لكل الذين يشتركون معها في الحدود، لأنه يقوض الوحدة، وقد يكون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي جيداً للمملكة المتحدة، لكنه يثير تساؤلات حول جيش أوروبي سيكون أضعف من (الناتو)». ويعتقد البعض أن أعظم رصيد لبوتين هو الهستيريا والمبالغة في التهديد الذي يمثله في جزء من الغرب، إلى جانب رد فعل محدود من الدول القوية، بما في ذلك الولايات المتحدة، بسبب عدائه الصريح. المنطق يذهب إلى شيء من هذا القبيل، عملاء روس يسممون جاسوساً روسياً سابقاً على الأراضي البريطانية هو بالطبع أمر شرير وخطير. ومع ذلك، فإنه لا يشكل تهديداً فعلياً يذكر للمملكة المتحدة. ويقول: «في كل مرة تظهر فيها فرصة ينتهزها بوتين، لقد حدث ذلك في أوكرانيا، وفي جورجيا، إنه يفهم فقط الرسائل القوية، وإذا واصلنا إظهار الفرقة بيننا، فسينتهز ذلك بالمثل، إنه مقاتل في الشوارع، ففي الوقت الذي يحاول فيه الغرب ممارسة التزلج في جميع أنحاء روسيا، فهو يلعب هوكي الجليد»، أي لعبة مختلفة. وتعتقد شخصيات معارضة في روسيا أن بإمكان الغرب اتخاذ إجراءات من شأنها إضعاف موقف بوتين. ويقول السياسي المعارض والمدير التنفيذي لمؤسسة مكافحة الفساد التابعة لزعيم المعارضة، أليكسي نافالني، فلاديمير أشوركوف: «العقوبات الشخصية ضد المقربين من بوتين، المتورطين في الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، ستقطع شوطاً طويلاً نحو تحقيق هذا الهدف». ومع ذلك، فإن الأسطورة التي يغذيها الارتباك والتقاعس الغربي بشأن هوية بوتين بالضبط، وماذا يريد، قد قطعت هي الأخرى شوطاً كبيراً في خلق عملاق محلي يمكنه التصرف بشكل متزايد مع الإفلات من العقاب بطريقة تغذي الأسطورة حوله في روسيا. يجادل البعض بأن تهديد بوتين المحدود نسبياً ولّد سياسة غربية باهتة في مواجهة العدوان الروسي، وهذا بدوره يعني أن الرئيس الروسي يمكنه القيام بأعمال عدائية ذات عواقب قليلة جداً. الوسائل المحدودة التي لدى الغرب، بالطبع، لا توفر الكثير من الاطمئنان لأولئك الذين يعارضون بوتين داخل روسيا وخارجها. ويقول القائد السابق لقوات الدفاع الإستونية، ريهو تيراس: «بوتين انتهازي، انقسام (الناتو) هو أعظم هدية يمكن أن يحصل عليها». تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news Share طباعة فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :