تتحدث ثلاثيّةُ (ضياع الاغتراب)[1] التي كتبها المؤرخ الشّركسي برزج أمين سمكوغ ونشرها قبل وفاته بسنوات عن مأساة القتل والتهجير والتشريد الشّركسية على أرض وطنه الأم وأرض الخلافة العثمانية وأراضي المهاجر التي اتخذها الشَّراكِسَة وطنًا ثانيًا لهم انتظارًا لعودة حرّة مظفّرة إلى أرض وطنهم الأم: (شيركيسيا) في شمال القفقاس. ويمكن – باختصار شديد – أن نصف ما جاء في هذه الرّواية في أجزائها الثَّلاثة بأنها: “مأساة الإبادة والتّهجير والشّتات الشّركسي”. تبدأ مقدمة الرِّواية بالحديث عن آخر عملية تهجير قسري تعرض لها الشَّراكِسَة عن موطنهم الثَّاني في هضبة الجولان إثر حرب عام 1967م. ويتحدث الرّاوي عن رحلته إلى أرض وطنه الأم وما يستعيده هناك مِن أمجاد أمته الشّركسية وتراثها وتاريخها التليد. وفي وصفه لشوقه وشوق كل شركسي لزيارة أرض وطنه الأم يقول: “كنت أدعو الله وأنا في الطّائرة من دمشق إلى نالتشك أن تتم رحلتي بسلام، لأنني كنت أخشى أن تسقط – لسبب ما – فلا يتحقق حلمي. الحلم! لقد جعلوا رؤية الوطن حلمًا راود كلَّ أجيالنا. كانت رؤية الوطن حلم جدي وأبي الّذي لم يتحقق، وها هوذا حلمي أنا اليوم”. ويقول عن زيارته لقبر المصلح الاجتماعي الشّركسي الكبير (جباغ قازان): “كانت زيارتنا الأولى إلى باحة كلية الآداب في (نالتشك) إلى قبر المصلح الاجتماعي الكبير (جباغ قازان) الذي كان داعية وحدة وطنية لشعبه الأديغي، وقد استطاع أن يحققها زمن الأمير الكبير (قايتوة آصلان بيك) صاحب العبارة الشّهيرة: “يجب ألا يكون بين البحرين إلا ملك واحد”، ويقصد بالطبع بحرَي: قزوين والأسود. وترتفع معنويات الرواي إذ يرى مدينة يتحدث سكانها اللّغة الشّركسية فيقول: “أردت أن أرى وأسمع وأن أفعل كما فعل الشَّاعِر العربي الرائع امرؤ القيس – صاحب أول معلقة عُلِّقت على الكعبة الشَّريفة بعد أن كُتبت بماء الذهب – وقت وقف أمام أطلال محبوبته: أن أقف وأستوقف. الفرق هو أنني لستُ أمام أطلال، بل أنا أمام ظاهرة مدهشة تنبئ أن دماء مئات الآلاف من الشّهداء لم تذهب هباء طالما أنَّ هناك مدينة واحدة في العالم يتحدث أهلها – كلُّ أهلها – اللّغة التي أُريدَ لها أن تندثر وما اندثرت”! وفي زيارته لجبل (ألبروز) المعروف شركسيًّا باسم: (أوشحه مافه) يقول الرّاوي: “نعم يا شعبي الشّركسي! يجب أن تعتبر من (أوشحه مافه)، فهو رمز صمودك وبقائك إلى الأبد بشموخه الدَّائم”. ويستحضر خلال وقوفه على هذا الجبل – الرمز آخر المحاولات الشّركسية للانعتاق مِن الاحتلال الرُّوسي: “كأنني رأيتها تبتسم لقولي. كأنني أعود معها إلى الثّلاثينيات مِن هذا القرن وأنا أنظر إلى الوديان وقدماي منغرستان في الثّلج. أسمع صوت البطلين: (إسماعيل كرتي) و(إسلام كوسك) يتجاوبان بعد أن هزما الجيش الأحمر واستوليا على أسلحته ومرَّغا سمعته القتالية بالتراب حتى حشد لهما العدو جيوشًا فاقت في تعدادها تعداد كل سكان البلاد، فتراجع البطلان وهما يقاتلان حتى استشهدا على هذه السُّفوح”. ويتساءل في زيارته لمدينة (بسه – فابه) الشّركسية التي تم ترويس اسمها لتصبح: (بيتاغورسك)، داعيًا الله أن يكتب لها التحرر قائلاً: “أو يدوم الظّلم ووراءه مَن يرفع صوته عاليًا رافضًا وجوده”[2]؟ وبعد عودته إلى دمشق يتذكر الرّاوي حياته مع أسرته في الجولان: “كانت الدّار التي يسكنها جدي وجدتي مؤلفة من أربع غرف على صف واحد باتجه مشرق الشّمس، مبنية بحجر البازلت الأسود المنحوت وسقف مِن القرميد الأحمر. وكان هذا الطابع المعماري هو ما يميز القرى الشّركسية في الجولان. وكان يحيط بالدّار حديقة صغيرة تزرع بأزهار الزّنبق شبه المزهر دائمًا. كأنني أحس بطعمه السّكري الآن. بل كأنه وجد خصيصًا ليعطي الرّحيق لنحلاتنا المقيمات في خليتين في الحديقة. كان عسلاً جولانيًّا أصيلاً”! ويقول: “خلاصة القول: إنك إذا أغلقت باب الدَّار، يمكنك العيش شهورًا طويلة مِن دون أن تحتاج إلى أي شيء من الخارج، فكل شيء كان متوفرًا بفعل الاكتفاء الذّاتي والاعتماد على النَّفس في هذه الدَّار الرِّيفية التي تمثل العقلية الشّركسية الشّديدة الاستقلال”. وعن علاج الأمراض يقول: “إن معظم عائلات الشّركس والأباظة كانت متخصصة بعلاج أحد الأمراض. والغريب أن عائلة جدي كانت متخصصة بعلاج المصابين بداء الكلَب، إذ كانوا ينجحون في علاجه رغم عدم معرفتهم أي شيء عن الجراثيم أو اللّقاحات الحديثة”. ويستهل برزج سمكوغ الفصل الأول من ثلاثيته بعبارة: “قالت جدتي”؛ ويعني بها جدته ستناي الَّتي روت له تفاصيل وأحداث مأساة التّهجير الشّركسية الّتي عاشتها وشهدت أحداثها على مدى ما يقارب مئة عام هي سنوات عمرها قبل أن تحضرها الوفاة في آخر عملية تهجير شهدتها من مدينتها القنيطرة إلى مدينة دمشق في حرب عام 1967م . تتذكر الجدة ستناي قريتها (بشه سه) في وطنها الأم شيركيسيا والخيرات التي كانوا يتمتعون بها: من تخزين الفاكهة في غرفة المؤونة، إلى صنع الجبنة الشّركسية والزبدة، إلى العسل اللّذيذ، إلى الاستبشار بالمطر والقيام بأعمال الزّراعة والفلاحة، ومنها إلى وصف ألعاب الفروسية ومضافة الفتيات واستقبال الضّيوف وتقدير الأمراء الّذين اعتبر برزج سمكوغ في روايته أنهم “من الشّعوب القليلة الّتي يقاتل فيها الأمراء في مقدمة الجيش باذلين زهرة شبابهم، بينما أمراء جيش العدو الرّوسي يرسلون جنودهم للقتال بينما هم يلهون في صالونات موسكو[3]“. كما تصف الجدة قواعد (الأديغة خابزه) المتعلقة باختيار العروس وكيفية استقبالها العريس وأحد أصدقائه في مضافتها، ومن ثم خطف العروس على طريقة “الخطيفة الشّركسية” التي لها قواعد وأصول وتتم وفق قواعد الشّريعة الإسلامية، و”عادات وتقاليد سهرة الجريح: [الجابشه]”، وكذلك الألعاب المشهورة التي كان أهل القرية يقومون بها بالتفصيل ك: “الدّبأة” و”الأغاوة” [لعبة الضّرب باليد] وغيرها… وينهي برزج سمكوغ الجزء الأول من ثلاثيته في سفينة تحمل الشَّراكِسَة إلى تركيا بعد أن أجبرهم القيصر الرّوسي على الهجرة إثر هدم الرّوس بيوتهم وقراهم وإسكان “مواطنين طيبين مسالمين من الروس والقوزاق” بدلاً عنهم حسب قول أحد الضّباط الرّوس. ويتابع برزج سمكوغ روايته في جزئها الثاني عن رحلة التهجير البحرية على لسان الجدة التي اختصرت الرحلة بقولها: “قُذف قومنا ليكونوا طعامًا للسمك. هل علمت الآن لماذا لا يأكل الأبخاز سمك البحر الأسود؟ إنهم يعتقدون أنه قد التهم آلافًا من أهلهم وأبنائهم الذين هجّروا”. أما الوطن البديل تركيا، فتعليق الجدة واضح جدًّا: “لا شيء يشبه وطنك! لا شيء”. والوطن “هناك في القفقاس حيث ولدنا وحيث بيتنا وقرانا ومزارعنا، وهو المكان الوحيد في العالم الذي نستطيع فيه أن نمارس اعتزازنا بكرامتنا، سواء أكنا أحياء أم أمواتًا. القفقاس هو المكان الوحيد الذي نكون فيه أسياد أنفسنا”. إنه درس لا يستنتجه المرء إلا بعد تجارب قاسية. ومن تركيا وما عانى بها أبطال الرواية، ينقل الكاتب الأسرة إلى – في الجزء الثاني أيضًا – إلى مدينة حلب فحماه فدمشق التي لم تشعر الأسرة بالغربة فيها لأن أجداد الشَّراكِسَة كانوا قد سبقوا القومَ إليها وأقاموا فيها وحكموها، فكان المقام في (المهاجرين) على سفوح جبل قاسيون، رغم أن الأمر لم يكن على هذه الإلفة عند مهاجرين آخرين، فتينا أبزاخ في أقصوصتها: (وطن أم كومة حجارة)[4] تصف بطلة القصة المهاجِرة إلى دمشق بأنها ليست من ضمن فسيفساء هذا البلد رغم كل نضالها بحثًا عن شخصيتها فيها وهويتها واندماجها فانسلاخها، وتنتهي القصة وهي ما زالت منتظرة لتتعفر بـ”تراب حنون”! ومن (المهاجرين) ينقلنا برزج سمكوغ إلى (الجولان)، وبالضبط إلى (القنيطرة) حيث توزع الشَّراكِسَة في ثلاثة أحياء بداية قبل أن تتوسع القنيطرة فتضاف إليها أحياء جديدة وقرى سكنها الشَّراكِسَة الذين عادوا فخاضوا حروب المنطقة وأهلها وقدموا أرواح شبابهم على مذبح الحريات فيها إلا القليل منهم مثل (مارج) الذي آمنَ أن “شعبنا” بحاجة ماسة إلى العلم، ومن هنا سافر إلى فرنسا “ليتعلم” لا “ليحارب”، فوحده العلم هو الذي “يحقق المعجزات”، فكان كما قيل عنه في الجولان: “ثائرًا ولكن بطريقة أخرى”. وهنا ينتهي الجزء الثاني من الرواية. أما الجزء الثالث، فيرافق الكاتب (مارج) الذي كاد يتزوج فرنسية بادلها مشاعر الحب أثناء دراسته في السوربون لولا “إنقاذه” كما أوحى الكاتب للقارئ من قِبَل أستاذه (ناميتوق) الذي طلب منه أن يصرف النظر عن هذا الزواج ويبحث عن فتاة شركسية تشاطره عاداته وتقاليده وتاريخه ودينه، فوافق على مضض وعاد إلى سورية لينشئ صحيفة ومدرسة شركسيتين[5] شكلتا علامة فارقة في التاريخ الشّركسي خارج الوطن. وتنتهي الرّواية بإذكاء حلم العودة إلى الوطن، وهو حلم يراود كل الشَّراكِسَة حتى غير القادرين على تحقيقه كما في قصة كمال جلوقة القصيرة: (القوشان)[6]، وهي قصة موجعة لولا نافذة أمل أطلت من السطور ترسم الوطن البعيد الجميل القادر وحده على تجاوز كل تفاصيل الواقع البشع في عمان بعد بيع الحوش والبيت وما يُرسَم من قبل أفراد الأسرة لإنفاق المبلغ، فإذا بالقوشان المخبأ يشبه حلمًا مخبأ قد يتحقق وقد لا. على أن برزج سمكوغ في نهاية روايته يقول: “الراغبون الحقيقيون بالعودة لا يضعون الشروط، بل هم بحاجة إلى قليل من التشجيع والرعاية والمساعدة. وهم الذين سيمهدون الطريق لمن سيأتي بعدهم؛ لذا يجب أن نؤسس منظمة ترعى مثل هذا الأمر الإنساني المشروع ونضع نظامًا لمثل هذا العمل الذي يمكن أن يكون بداية الطريق، وهو أول أهدافنا وأهمها، فيه خلاص شعبنا”. [1] برزج سمكوغ، ضياع الاغتراب (ثلاثية)، دمشق، ط1: 1998. وقد أهدى الكاتب ثلاثيته إلى روح والده: أمين سمكوغ ورفاقه. [2] _ يعلق (كمال جلوقة) على رواية برزج سمكوغ بقوله: كل شركسي يقرأ هذه السطور يشعر بأنها تحكي قصة عائلته هو. ففي أول زيارة لي إلى أرض القفقاس عرفني مضيفي على شاب قال إنه من عائلة جلوقة. وبعد التعارف، وفي اليوم التالي طلب إلي الشاب أن أصاحبه إلى بيت العائلة في قرية (دوغوجقوي) وتسمى حاليًّا (أوشغير) وافقت بعد الاستئذان من مضيفي. في الطريق طلبت من محمد وهو قريبي هذا ان يقف في مكان يشرف على القرية لأنظر إليها، وفعلا وقف، فنزلنا من السيارة وقلت له: اخي محمد، أنا لم أزر هذه القرية من قبل ولم اشاهد حتى صورة لها، وسأخبرك الآن عن موقع بيتنا استنادًا إلى ماكان يرويه عم أبي لأبي ومنه عرفت هذه التفاصيل: قسمت القرية بخط مستقيم يفصل بين مبانيها القديمة والجديدة، مددت الخط إلى نهر (شيرج) الذي يمر بجوار القرية وقلت: ذلك البيت ذو الشّبابيك الزرقاء هو بيتنا! فوجىء محمد وقال: فعلاً ذلك هو البيت الذي تربينا فيه. وحضنني من جديد قائلا: إنك فعلا ابن عمي! [كمال جلوقة: صفحة: كتب، مجلات، وصحف شركسية (Facebook) 12 حزيران. [3] _ برزج سمكوغ: ضياع الاغتراب، بتصرف. [4] _ تينا أبزاخ: أقصوصة: (وطن أم كومة حجارة)، مدونة: Sidadu. [5] _ يقصد المؤلف بـ(مارج) والده المؤرخ أمين سمكوغ. وقد أقام المدرسة الأديغية في القنيطرة بين عامي 1933 و1942 . يقول بسام حاج حسن في صفحة: (المكتبة الشّركسية): “في عام 1952 توفي أمين سمكوغ وهو في الخمسين من عمره كان قد قضاها في خدمة شعبه وأمته”. وإذ نشر معلومات مهمة عن المدرسة، نشر أيضًا قصيدتين للأطفال كتبهما بالشّركسية (عبد الرحمن قات: 1900 _ 1972) وأداهما (نجدت قات) وكانتا تدرّسان في المدرسة الأديغية، الأولى بعنوان: (الرفق بالحيوان) والثانية بعنوان: (غير المهذبين) [انظر: بسام حاج حسن، صفحة: المكتبة الشّركسية، المدرسة الأديغية في القنيطرة بين عامي 1933 و 1942].
مشاركة :