نيروبي – قبل نحو عام، وفيما كان العالم ينتظر نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، شن رئيس الوزراء الإثيوبي أبيي أحمد حملة عسكرية على منطقة تيغراي في شمال بلاده. كانت تلك بداية العمليات العسكرية التي تعهد أبيي أنها ستكون سريعة ومحددة الهدف، إلا أنها استحالت حربا طويلة حصلت خلالها مذابح وعمليات اغتصاب جماعي وتهديد وشيك بالمجاعة. والسبت ازداد الوضع سوءا بعد تصريحات متضاربة حول السيطرة على مدينة مدينة ديسي الإستراتيجية في شمال إثيوبيا، فبينما أعلن ناطق باسم متمرّدي تيغراي أن الجبهة “سيطرت بالكامل” على المدينة ديسي، ما يمثّل ضربة كبيرة للحكومة الفدرالية في النزاع المستمر منذ عام، نفت الحكومة صحة ذلك. وأفادت خدمة الإعلام التابعة للحكومة الإثيوبية على فيسبوك "لا تزال ديسي ومحيطها تحت سيطرة قواتنا الأمنية". وسبق أن تحدّث السكان عن احتشاد كبير للجيش في المنطقة، فيما تدفّق مدنيون فروا من بلدات شهدت معارك شمالا إلى ديسي. في الأثناء، تتعرّض تيغراي لقصف جوي يومي تقريبا منذ الأسبوع الماضي في وقت يكثّف الجيش اللجوء إلى سلاح الجو في النزاع. وأفاد مسؤول في إحدى المستشفيات بمقتل عشرة أشخاص جرّاء ضربة جوية الخميس فيما أشارت الأمم المتحدة إلى أن ضربتين استهدفتا ميكيلي عاصمة تيغراي في 18 أكتوبر أسفرتا عن مقتل ثلاثة أطفال. وقتل شخص آخر في هجوم منفصل هذا الشهر. وذكرت الحكومة أن المنشآت التي تعرّضت للقصف في شمال وغرب تيغراي كانت عسكرية في طبيعتها وتساعد متمرّدي جبهة تحرير شعب تيغراي. وأثارت عمليات القصف انتقادات دولية وعرقلت وصول منظمات الأمم المتحدة إلى المنطقة حيث يواجه نحو 400 ألف شخص ظروفا أشبه بالمجاعة في ظل حصار مفروض بحكم الأمر الواقع. وتتفوق الحكومة الفدرالية عسكريا على المتمرّدين بفضل سيطرتها على الأجواء وعديد جنودها. واندلع النزاع في تيغراي في نوفمبر العام الماضي عندما أرسل رئيس الوزراء أبيي أحمد قوات إلى تيغراي في إطار عملية تحوّلت إلى حرب طال أمدها وشهدت مجازر واغتصابات جماعية فيما بات شبح المجاعة يخيّم على المنطقة. وأشار رئيس الوزراء الحائز على نوبل للسلام سنة 2019 حينذاك إلى أن العملية جاءت للرد على هجمات استهدفت معسكرات للجيش نفّذتها جبهة تحرير شعب تيغراي، الحزب الحاكم للإقليم سابقا والذي هيمن على المشهد السياسي في البلاد على مدى ثلاثة عقود قبل وصول أبيي إلى السلطة. وتعهّد بتحقيق انتصار سريع لكن بحلول أواخر يونيو أعاد المتمرّدون تنظيم صفوفهم وسيطروا على معظم تيغراي بما فيها ميكيلي فيما امتدت المعارك إلى إقليمي أمهرة وعفر المجاورين. وفي أغسطس، عيّن الاتحاد الإفريقي الرئيس النيجيري السابق أولوسيغون أوباسانجو ممثلا أعلى للقرن الإفريقي كجزء من حملة لتعزيز السلام والأمن الإقليميين. ويقول دبلوماسيون إن أوباسانجو يقوم حاليا بدور أكثر نشاطا في محاولة لتسهيل المحادثات رغم أن نجاحه مستبعدا. وأشار وليام دايفيسون كبير المحللين في الشؤون الإثيوبية في مجموعة الأزمات الدولية إلى أنه "من الصعب أن نرى هؤلاء الأنصار يجلسون حول الطاولة لتسوية الأمور". وقال أويت ولدميكل خبير الأمن في القرن الإفريقي في جامعة كوينز في كندا، إنه حتى لو جرت المحادثات "سيكون من الوهم لأي شخص أن يعتقد أن الأمور ستعود إلى طبيعتها بعد الكثير من إراقة الدماء والدمار". وتابع أنه مع ذلك "من المهم أن يكون هناك وقف فوري للقتال وحماية المدنيين ووصول المساعدات الإنسانية بدون قيود وإنهاء حصار تيغراي". ووقّع الرئيس الأميركي جو بايدن أمرا تنفيذيا يسمح بفرض عقوبات على الأطراف المتحاربة إذا فشلت في التزام تسوية تفاوضية. أديس أبابا - داهم عناصر من الشرطة الإثيوبية كاتدرائية في أديس أبابا قبل طلوع الشمس في أحد أيام يوليو مقاطعين الصلوات واقتادوا قرابة عشرة كهنة من إثنية تيغراي بالقوة في شاحنة بيك-أب. لم تقدّم الشرطة أي تفسير للمداهمة، لكن لم تكن حاجة لذلك: فالموقوفون أدركوا على الفور أنهم سينضمون إلى آلاف التيغرانيين الذين اعتقلوا بتهمة دعم "جبهة تحرير شعب تيغراي" المتمردة. على مدى العام الماضي، استهدفت حملة اعتقالات تعسفية واسعة النطاق تيغرانيين من جميع الأطياف في العاصمة أديس أبابا وأماكن أخرى في إثيوبيا، في وجه آخر خفي للحرب المدمرة في شمال البلاد. ويؤكد المسؤولون شرعية التدابير الهادفة للقضاء على الجبهة التي يعتبرونها "منظمة إرهابية". غير أن مقابلات أجرتها وكالة فرانس برس مع عشرات الموقوفين والمحامين ومسؤولين في القضاء وحقوقيين، تكشف عن عملية أكثر عشوائية تطال مسؤولين عسكريين بارزين وصولا إلى عمال مياومين. وقال ضحايا إن تجربتهم كشفت عن طابع عرقي للتوقيفات، فيما بنيت القضايا على أدلة واهية، حسب قولهم. وأوقفت الشرطة رجال الدين الذين اعتقلوا من الكاتدرائية لأكثر من أسبوعين واتهمتهم بجمع أموال للجبهة وإحراق أعلام إثيوبية، بل التخطيط لهجمات إرهابية بأنفسهم. ويقول راهب إنه لم يتمالك نفسه عن الضحك عندما سأله محقق عن مكان إخفاء المسدسات. وقال مشترطا عدم نشر اسمه لدواع أمنية "قلنا لهم نحن رجال دين ولسنا سياسيين". وأضاف "لا أعلم من أين جاؤوا بالمعلومات، لكنهم يستخدمونها لقمعنا نحن التيغرانيين ودفعنا لكي نعيش في الخوف". عملية تطهير داخل الجيش بدأت الاعتقالات عقب اندلاع الحرب في إقليم تيغراي في أقصى شمال البلاد مطلع نوفمبر 2019، بعد أشهر من التوتر بين رئيس الوزراء أبيي أحمد وجبهة تحرير شعب تيغراي التي كانت تمسك بالسياسات الوطنية قبل تولي أبيي أحمد مهامه في 2018. في البدء، استهدف المسؤولون عسكريين بشكل رئيسي. بعد أسبوعين على أول عملية إطلاق نار، استُدعي عشرات الضباط التيغرانيين إلى اجتماع في أديس أبابا. وبثت وسائل الإعلام الرسمية المشاهد كدليل على دعم المشاركين فيه للحكومة. لكن في وقت لاحق، اعتقل ثلاثة من أولئك الضباط وتمّ تفتيش منازلهم بحثا عن أسلحة قبل سجنهم بتهمة التواطؤ للإطاحة بأبيي، وفق ما قال أفراد من عائلاتهم. وقال مايكل الذي كان والده من بين الموقوفين إن الاعتقالات أثارت دهشته. وأضاف أن والده وهو ضابط خدم لثلاثة عقود "لم يمكن يحبّ التحدّث بالسياسة"، مضيفا "بل كان يوبخنا عندما نتحدث في السياسة". بعد تقرير نشرته وسائل إعلام رسمية في أغسطس وذكر أن محكمة عسكرية قضت بإعدام عدد من الضباط "الخونة"، ازدادت مخاوف مايكل. وقال "أخشى كثيرا أن يحكموا بالإعدام أو المؤبد على والدي والمحيطين به". بعد مضي عام تقريبا، لا يزال والد مايكل معتقلا في معسكر للجيش غرب أديس أبابا. والسماح له بثلاث زيارات أسبوعيا يجعله محظوظا مقارنة بآلاف الموقوفين الآخرين الذين لا يؤذن لهم بذلك. إسكات المنتقدين كانت القوات الإثيوبية سيطرت سريعا على الجزء الأكبر من إقليم تيغراي. ومع استمرار الحرب في 2021، تكثفت حملة التوقيفات وإن ببطء. لكن جبهة تحرير شعب تيغراي تمكّنت في أواخر يونيو من استعادة السيطرة على غالبية المنطقة ومنها العاصمة ميكيلي ما دفع بالجيش إلى سحب جزء كبير من قواته. بعد ثلاث ليال على استعادة السيطرة على ميكيلي، وصل خمسة من عناصر الشرطة الفدرالية وثلاثة ضباط باللباس المدني إلى منزل ألولا في أديس أبابا، وطرقوا باب الناشط التيغراني الذي كان يستخدم صفحته على موقع فيسبوك لتسليط الضوء على مجازر واغتصابات جماعية في تيغراي، وفق منشوراته. أبقوه قيد الاحتجاز ليلا في مركز للشرطة في العاصمة، ثم اقتاده جنود إلى معسكر يبعد 200 كلم شرقا في منطقة عفر. في الأيام السبعة التي تلت عاش ألولا، وهذا ليس اسمه الحقيقي، على قطعة خبز وكوبين من الماء يوميا. وكان في المعسكر أكثر من ألف موقوف، بينهم صحافيون وسياسيون جاهروا بالحديث عن أهوال النزاع الذي أودى بالآلاف، ودفع وفق الأمم المتحدة، بعشرات الآلاف إلى ظروف تشبه المجاعة. أُفرج عن ألولا، لكنه بات يخشى الحديث عن الحرب. وقال "إذا تحدثت عن ذلك، سيتم اعتقالي مجددا أو ربما قتلي". بموازاة الاعتقالات، أغلق المسؤولون آلاف المحال التجارية "الداعمة لجبهة تحرير شعب تيغراي"، وفق ما أعلن مسؤول في وزارة التجارة في سبتمبر. في مجمع واحد في أديس أبابا، أُغلقت سبع حانات وفندقين في يوليو بسبب "الضجيج الملوث"، اعتبرها أصحاب المصالح اتهامات لا أساس لها. وقال صاحب حانة يدعى مايكل "يتصورون أن التيغرانيين يحتفلون بالتقدم الذي أحرزته الجبهة". واعتبر إغلاق المحال دليلا آخر على أن المسؤولين يستهدفون جميع التيغرانيين وليس فقط داعمي الجبهة. ويقول الباحث في منظمة العفو الدولية فيسيها تيكليمن إنه من الصعب معرفة الحجم الحقيقي للتدابير القمعية بسبب سريتها. لكنه يلفت إلى أن المنظمة "تلقت تقارير عدة" تفيد باحتجاز أكثر من ألف شخص في معسكر واحد في ظروف "بائسة". ولا تتوافر معلومات عن العديد من الموقوفين. وقال تيكلي "قطع أفراد الأسر مئات الكيلومترات بحثا عن أقارب موقوفين. وتوجه آخرون إلى مراكز الشرطة للاستفسار عنهم". وأثارت الاعتقالات حتى انتقادات بعض المسؤولين الحكوميين. في أواخر سبتمبر، كتب المسؤول البارز في الإدارة المؤقتة المعينة من أبيي في تيغراي أبراها دستا، على فيسبوك إن السلطات خلقت بيئة يعد فيها التحدث باللغة التيغرانية، "جريمة". في اليوم التالي، اعتقل أبراها واتهم بانتهاك قوانين الأسلحة والتحريض. وتحدث مسؤولون آخرون في مجالس خاصة، وفق تقارير. خلال مؤتمر في سبتمبر في مدينة أداما، وبّخ المدعي العام غيديون تيموثاوس موظفين في مديرية استرداد الأصول في مكتبه لحماستهم المفرطة في مطاردة أصحاب الأنشطة التجارية، وفق ما قال مسؤولون حضروا المؤتمر. واتهم المديرية بـ"سوء استخدام النفوذ"، ودعا إلى وقف الإجراءات ذات "الطابع العرقي". ولم يرد غيديون، وهو الآن وزير العدل، على طلب للتعليق. وحتى إن توقفت الاعتقالات غدا، يخشى الضحايا من أنها تسببت بتآكل النسيج الاجتماعي وخصوصا في أديس أبابا، حيث كان التيغرانيون يعيشون في حرية. وقال محام تيغراني يمثل نحو 90 من الموقوفين التيغرانيين "واضح أن كل شخص يشعر بالارتباك... لا يعلمون ما سيحصل غدا". وأضاف "حتى أنا لا أشعر بالثقة. يمكن أن يعتقلوني في أي وقت".
مشاركة :