تتجلى في المشهد اليمنى تحولات نوعية بدأت بعودة الشرعية إلى عدن، والتي تم تحريرها من قبضة ميليشيات الحوثيين وقوات الرئيس المعزول على عبد الله صالح، ثم تحرير أغلب محافظات الجنوب وتحقيق مقاربات مهمة باتجاه العاصمة صنعاء بعد السيطرة على محافظة مأرب واستعادة منطقة باب المندب الاستراتيجية، تمهيداً لتحقيق الانتصار الكامل على هؤلاء الذين قادوا الانقلاب ضد الدولة اليمنية بمؤسساتها ورموزها. وأسهم في تحقيق هذه التحولات التحالف العربي بقيادة السعودية وبمشاركة تتسم بدرجة عالية من الفعالية والكفاءة من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة التي تساهم بمقاتلاتها ونسورها في الجو، وبمقاتليها الذين أثبتوا شجاعة منقطعة النظير من خلال المعارك التي خاضوها، وما زلوا يخوضونها، من أجل فرض معادلة الشرعية واستعادة مؤسسات الدولة اليمنية، وقدموا الدماء والشهداء، إلى جانب السعودية والبحرين، وهو أمر لم يثن هؤلاء المقاتلين عن الاستمرار في المشاركة النشطة في عمليات التحرير التي تحقق يوماً بعد يوم إنجازات عسكرية تقلب موازين القوة التي كانت تميل لحساب الميليشيات الحوثية وقوات صالح التي سيطرت عليها مظاهر الشعور بغطرسة القوة على مدى ما يقرب من تسعة شهور منذ سيطرتها على العاصمة صنعاء في الحادي والعشرين من سبتمبر/أيلول 2014. وإزاء ما حققته قوات الشرعية المتمثلة في الجيش الوطني والمقاومة الشعبية من انتصارات على الأرض، أدرك الانقلابيون أن الكرة لم تعد في ملعبهم، وأنها انتقلت بالفعل إلى الجانب الآخر في ظل نجاح التحالف العربي في توجيه ضربات قوية لبنيتهم العسكرية عبر غارات ممنهجة لمواقع وقواعد جوية ومعسكرات سيطرت عليها هذه الميليشيات المتمردة على سلطة الدولة، ما أسهم في تقليص قدراتها القتالية ومخزونها من التسليح والذخائر بل والصواريخ وفي مقدمتها صواريخ سكود. وفي الآن ذاته فرض التحالف العربي حصاراً بحرياً منع إلى حد كبير عمليات تسلل كانت تقوم بها القوى الإقليمية لتزويد الانقلابيين باحتياجاتهم من العتاد العسكري - وكانت آخر عملية قبل أيام - ضمن تقدير خاطئ من قبل قيادات هذه القوى للموقف، مما جعلها تعتقد أنها باتت قاب قوسين من السيطرة على الخاصرة الجنوبية للخليج العربي وأهم شريان استراتيجي متمثلاً في باب المندب. ولا شك في أن هذه المعطيات على الأرض، دفعت الحوثيين إلى القبول بالدخول في عملية تفاوض جديدة مع الشرعية برعاية المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إسماعيل ولد الشيخ، والتي من المقرر أن تنطلق في غضون الأسبوعين المقبلين بمدينة جنيف السويسرية، بعد قيامه بجولات مكوكية بين الرياض وصنعاء ومسقط، بهدف بلورة الأرضية التي ستستند إليها هذه العملية، والتي تحظى بدعم وتأييد ومساندة الجامعة العربية - وفق ما يؤكده لالخليج نائب أمينها العام السفير أحمد بن حلي، والذي يرى أنه بعد التأكد من عودة الشرعية إلى اليمن، فإنه من الطبيعي أن تكون الخطوة المقبلة هي جمع كل المكونات اليمنية بقدر مكانتها في الخارطة السياسية للعودة إلى الحوار باعتباره السبيل الأنجع والوحيد لإيجاد مخرج للأزمة وحلها ضمن محددات تقوم على المحافظة على وحدة البلاد وتحقيق تطلعات الشعب اليمني الذي انتفض من أجلها في عام 2011. غير أنه من الأهمية بمكان التأكيد على أن يفضى هذا الحوار إلى استعادة الأمن والاستقرار لليمن، على نحو يعيد الأمور إلى نصابها بعد أن حاول أحد المكونات القفز على السلطة، وهو هنا الجماعة الحوثية مدعومة من قبل الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، الأمر الذي دفع السعودية إلى الإسراع لتشكيل تحالف عربي لتصحيح مسار الأحداث، والعمل على استعادة الشرعية من منطلق أن من شأن ذلك، ليس المحافظة على أمن اليمن فحسب، وإنما المحافظة على الاستقرار الإقليمي الذي ضرب في الصميم بعد تغول الميلشيات الحوثية، ووضع حد لتدخلات قوى إقليمية، لعبت للأسف دوراً سلبياً لتعطيل الحلول السياسية خلال الأشهر المنصرمة. ولذلك كان من الضرورة بمكان وقف هذا التغول الحوثي المدعوم من رأس النظام السابق الذي لم يلتزم بما تم الاتفاق عليه في إطار المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني، ظناً منه أنه بمقدوره أن يستعيد نفوذه ووضعيته التي رفضها بالأساس الشعب اليمني. ووفق منظور السفير بن حلي، فإن الوقت حان للجلوس إلى طاولة الحوار في إطار المصلحة الوطنية لليمن واليمنيين بشكل عام، وليس لمصلحة طرف أو مكون أو منطقة معينة، خاصة أن الكل أصبح منهكاً، وقدرات البلاد باتت مستنزفة بفعل التغول الحوثي. وفي هذا السياق ثمة اهتمام واسع من قبل المجتمع الدولي لإنجاح مهمة ولد الشيخ، الذي يبذل كل جهد ويعرف تفاصيل المشكلة، وقد تواصل غير مرة مع الجامعة العربية، وعقد سلسلة من اللقاءات مع أمينها العام نبيل العربي، ومع غيره من كبار المسؤولين فيها شارحاً تصوراته وخطته للتحرك على المستوى اليمني ثم على المستوى الإقليمي، أو على صعيد مجلس الأمن الداعم الرئيسي لجهوده، وبالتالي فإن الفرصة أضحت سانحة ومناسبة ومهيأة في الوقت الحالي لليمنيين للانخراط في عملية سياسية، تفضي إلى حل مرض، وهنا يعرب بن حلي عن تطلع الجامعة العربية إلى أن تساهم بعض القوى الإقليمية، تحديدا إيران، في إنجاح الحلول السياسية، لاسيما في ظل المعطيات الجديدة وفي مقدمتها الهزائم التي لحقت بالذين أثاروا القلاقل والنعرات الطائفية في هذا البلد العربي المسلم الذي ظل على الرغم من تعدديته القبلية وتنوعه المذهبي، محافظاً على وحدته الوطنية ونسيجه الاجتماعي المترابط، لأن ذلك ينعكس إيجاباً على استقرار دول المنطقة والمحيط الإقليمي. ولكن ثمة توجس من إمكانية تراجع الحوثيين عن المضي قدماً في عملية التفاوض المرتقبة أو إبداء تصلب في المواقف، مما يحول دون تحقيقها النتائج المستهدفة، مثلما حدث غير مرة من قبل، وقد أبدينا الملاحظة للسفير بن حلى فعقب: إن هناك قناعة باتت قوية تكمن في أنه لم يعد بمقدور العامل العسكري أن يحسم الموقف لصالح الانقلابيين من الميليشيات الحوثية وقوات صالح، ومن ثم لم يعد بالإمكان فرض الأمر الواقع عبر منهجية القوة العسكرية التي لجأوا إليها منذ بداية الأحداث. وفي الوقت نفسه عجزهم عن تحقيق مكاسب على الصعيدين العسكري والسياسي، فضلاً عن تقلص الدعم القادم إليهم من الخارج، وذلك بعد أن شعر مقدموه أنه لم يؤد إلى قلب المعادلة الداخلية في اليمن لمصلحة استراتيجيتهم الإقليمية، وهو ما بات يستوجب عليهم - انطلاقاً من الحقائق الجديدة على الأرض -السعي إلى مساعدة مختلف المكونات اليمنية للتوصل إلى حل سياسي بعيداً عن النعرات الطائفية والمذهبية، والتي ثبت أنها لا تخدم أي طرف يتكئ عليها في تعاطيه مع أي أزمة. واللافت أن هناك توجهاً بات واضحاً في الآونة الأخيرة من قبل التحالف العربي، لوقف العمليات العسكرية وهو ما تجلى في التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير التي تحدث فيها عن قرب انتهاء هذه العمليات. وأكده وزير الخارجية البريطاني في تصريحات أدلى بها عقب لقائه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، في الرياض نهاية الأسبوع المنصرم، وهو ما يتسق مع قرب استئناف العملية السياسية بعد إعلان الحوثيين موافقتهم على قرار مجلس الأمن رقم 2216، والانخراط في مفاوضات مع الحكومة الشرعية، ولكن من خلال استقراء الواقع على الأرض، فإن الحكومة اليمنية والتحالف العربي يدركان أنه لا يمكن لأية مفاوضات سياسية أن تتم وتكون الكلمة فيها مسموعة لجانب الشرعية ما لم يتم استكمال استرداد مدينة تعز من أيدي الميليشيات الانقلابية وتعز بالتحديد لأهميتها الاستراتيجية لأنها عملياً مفتاح الجنوب وعدن تحديداً، وتمثل نصراً معنوياً، يتحدث البعض عن أن صنعاء عندها ستنتفض في وجه الميليشيا وستشعر بالرعب وهو ما قد يساهم في سقوط الميليشيا بشكل كبير حسب رؤية متابعين للشأن اليمني. ولعل ما يعزز شعور التحالف العربي بأهمية تعز استراتيجياً، هو قيامه بإنزال أسلحة نوعية للمقاومة الشعبية فيها لتمكينهم من إحداث اختراقات في البنية العسكرية للمتمردين بالتزامن مع توجيه ضربات جوية مكثفة على مواقعهم في المدينة ومناطق أخرى، لإحداث أكبر قدر من الخسائر في صفوفهم وعتادهم، فضلاً عن روحهم المعنوية الحوثي وصالح. وثمة قناعة تحكم طرفي الصراع مؤداها، أن من يتوجه إلى جنيف وتعز تحت سيطرته ستكون له الكلمة العليا في المفاوضات، وهو ما ينبئ عن أن عملية تحرير تعز وهزيمة عناصر الانقلابيين التي تحاصرها وتسيطر على مفاصل عدة فيها باتت وشيكة، وربما قبل التوجه إلى جنيف. ومع ذلك ثمة من يرى من الخبراء أن الحل السياسي ونجاحه ليس مرتبطاً بجلوس الطرفين إلى طاولة المفاوضات فحسب، لاسيما أن هناك جولات سابقة فشلت في التوصل للحل، إنما الأمر يرتبط بحزمة من العوامل والمتغيرات الداعمة أو المعوقة له، ومن تلك المعوقات تتحمل مسؤوليتها الأطراف اليمنية كافة، بعضها يرتبط بغياب البيئة السياسية والاجتماعية القائمة على قيم التعايش والحوار والتداول السلمي للسلطة، وبعضها الآخر يأتي كنتيجة لحالة الاستقطاب المذهبي والسياسي بين المكونات اليمنية المختلفة، وبعضها الثالث، يرتبط بضعف أداء الدولة وأخطائها في إدارة الكثير من الملفات ليس اليوم فحسب، وإنما منذ توحيد اليمن في تسعينات القرن الماضي، والبعض الرابع يرتبط بتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي بلغت حد الانهيار كما تؤكده تقارير المنظمات الدولية والإقليمية. أما المعوقات الخارجية فهي ترتبط بحجم الانشغالات الدولية والإقليمية بقضايا عدة على حساب تردي الأوضاع في اليمن، فضلاً عن تحول اليمن إلى مسرح للصراعات الإقليمية والدولية. لذا رجح مراقبون أن الحل السياسي الذي يراود الكثيرين لوقف النزيف الذي تشهده الأرض اليمنية يومياً، لا يزال بعيداً ومتعثراً. وأن ما يجرى اليوم من جانب الحوثيين والمخلوع صالح، هو مجرد مناورات تستهدف تخفيف الضغوط عليهما، إضافة إلى جذب الانتباه بعيداً عمّا يعاد ترتيبه على الأرض اليمنية عبر كسب المزيد من الوقت لتحين الفرصة المناسبة لاستعادة ما فقداه على يد التحالف العربي، بما يعني أن الحوار المنتظر إجراؤه بعد أيام إن اكتمل لن تختلف نتائجه كثيراً عن الحوارات الأخرى التي سبقته، وكان مآلها إلى الفشل. ولكن الجامعة العربية، تشدد، على لسان نائب أمينها العام أحمد بن حلي، على أهمية أن يدرك اليمنيون أنه لم يعد مقبولاً لقوة بعينها أن تفرض سلطتها على البلاد، وأن التوافق على الحل السياسي وفق المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني وقرار مجلس الأمن رقم 2216، والذي صدر تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحدة، من شأنه المساعدة على تحقيق انفراجة حقيقية على صعيد الحل السياسي المأمول، الذي يتعين أن يتزامن معه تسريع الخطوات الرامية، إلى تكثيف المساعدات الإنسانية للشعب اليمني، والتي بدأت بالفعل عبر ما قدمته كل من السعودية والإمارات خاصة بعد تحرير عدن، وذلك لتخفيف معاناة أكثر من 20 مليون يمني، يكابدون كل أنواع نقص الاحتياجات الرئيسية من طعام ودواء وطاقة وكل ما يتصل بالحياة اليومية، وذلك يتطلب، في منظوره، تجسيد التضامن العربي الحقيقي ليس عبر الحكومات فحسب، وإنما عبر المنظمات الأهلية والشعبية حتى يشعر الشعب اليمني، أنه ليس وحيداً في مواجهة المكابدات اليومية، إضافة إلى الاستعداد من الآن لمساعدة اليمن على إعادة الإعمار، بعد أن طال التدمير الناجم عن الحرب كل مرافق الحياة والأساسيات، معرباً عن قناعته بأن دول مجلس التعاون الخليجي وغيرها من الدول العربية، ستسارع عقب إعادة الاستقرار إلى البلاد إلى عقد مؤتمر للمانحين، ووضع الخطط التي تهدف إلى إعادة تنمية وبناء اليمن. * ينشر بالترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة
مشاركة :