أثارت التصريحات التي أدلى بها الرئيس عبد الفتاح السيسي لتليفزيون البي بي سي في حواره أمس ردود أفعال كثيرة ، بين مستغرب ، وشامت ، ومتشائم ، ومتفائل ، ومحبط ، وذلك أن عباراته كانت بالفعل صادمة للبعض ومحيرة للبعض الآخر ، وهذا ناتج من تكرار حالة الازدواجية في خطاب السيسي الإعلامي ، فهو يتحدث في الخارج بلغة سياسية تختلف عن تلك التي يتحدث بها في الداخل . في حواره مع البي بي سي أظهر لغة سياسية أخرى في الحديث عن الإخوان المسلمين ، وقال أنهم جزء من الشعب المصري ، كما قلل من أهمية أحكام الإعدام التي صدرت بالمئات ضد مؤيدي مرسي ، وقال أن هذه الأحكام لن تنفذ ، وربط ذلك بوصف بعضها كأحكام غيابية والبعض الآخر بأنه سيتم إلغاؤه في محكمة النقض ، كما تحدث عن المصالحة الوطنية بلغة محايدة ، فلم يرفضها وترك بابها مفتوحا ، ولكنه قال أنها متروكة لاختيار الشعب المصري ، كما نفى أنه يفكر في تعديل الدستور أو توسيع صلاحياته كرئيس أمام البرلمان وأنه لا يسعى لذلك أبدا ، وهو كلام مغاير لما قاله هنا من أن الدستور تمت كتابته بنوايا حسنة وأن الدول لا تقوم بالنوايا الحسنة ، وهي الإشارة التي فتحت الطريق أمام حملة ممنهجة في الإعلام الموالي والأحزاب الموالية للدعوة لسرعة تعديل الدستور لتوسيع صلاحيات الرئيس ، ووصف الدستور فيها بأنه كارثة وأن بعض مواده تهدد الأمن القومي للدولة ؟! . أيضا ، وضح من الحوار مع البي بي سي صعوبة الضغوط التي يتعرض لها السيسي دوليا في ملف حقوق الإنسان والقوانين التي أصدرها مقيدة للحريات واتساع نطاق الاعتقالات والإحالات للمحاكم ، وقد اضطر السيسي لأن يقول لجيزيل خوري ، التي حاورته ، بأن مصر ليست أوربا ، وهي إجابة محرجة وترقى إلى حد الإهانة للشعب المصري ، ولكن كان واضحا أنها خرجت تحت ضغط محاولة التخلص من هذا الاتهام المتكرر والمحرج ، غير أن هذه الإجابة يصعب استيعابها في خطاب السيسي في الداخل الذي يوقعه دائما بهتاف : تحيا مصر ، تحيا مصر ، في حين أنه يقلل من شأنها وشأن شعبها واستحقاقه للكرامة وأن ينعم بحقوق الإنسان وأنه أقل في تطوره الحضاري والاجتماعي من أوربا وبالتالي فلا يستحق أن يعامل بنفس الحقوق ومستوى الكرامة التي يعامل بها الأوربي . مرة أخرى ، مضطر إلى الحديث عن كثرة سفرات الرئيس للخارج ، واهتمامه بالخارج أكثر من اهتمامه بالداخل ، وهذا يعطي الانطباع السلبي عن تقديره لقيمة الإرادة الشعبية في صناعة مستقبل الوطن ، وأن نظامه يراهن على الخارج وليس الداخل في دعم استقراره ونجاحه ، أو على الأقل يراهن على الخارج أكثر من رهانه على الداخل ، أنا غير مستوعب أن يرتب الرئيس لقاءا في لندن مع المفكرين البريطانيين للنقاش والحوار ، بينما هو يتجاهل مفكري وطنه ، رغم كثرة نداءاتهم ونقدهم واستغرابهم للمسار الخاطئ الذي تسير فيه الدولة ، ولو أن السيسي اهتم بعقد لقاء دوري مع مفكري الوطن وعقوله الكبيرة والمستقلة والجادة ، وليست المطبلة أو المنافقة أو معتادة التصفيق ، لخدمه ذلك أكثر كثيرا من سفراته ومن حواراته مع المفكرين الخواجات ، ولفتح له كنوزا من الأفكار والمشروعات والخطط تصوب المسار وتنقذ الوطن ، ولكنه ـ فيما يبدو ـ لا يثق في قدرات هؤلاء المدنيين ولديه من خبرات العسكريين وكفاءاتهم ما يغنيه ، وحيث يجتمع بهم دائما قبل سفره وبعد عودته من سفره . زيارة السيسي لبريطانيا فتحت نقاشات ساخنة في مجلس العموم البريطاني ، وشهدت هجوما جارحا ودعوات مهينة لاتخاذ موقف رسمي تجاهه ، كما تحدثت الصحافة البريطانية عنه بأوصاف قاسية للغاية ، وأيضا ، أمس كانت هناك جلسة استماع في الكونجرس الأمريكي عن ملف حقوق الإنسان ، وكانت مخصصة لمصر تحديدا ، وهي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك ، بعد المرة السابقة التي كانت قبل ثورة يناير 2011 بأسبوع واحد ، وأعتقد أنه سيكون من الصعب على السيسي أن يتهرب طويلا من مواجهة تلك المعضلة ، ولن يفيده كثيرا الخطاب الرسمي والإعلامي الموالي الذي يسوق في الداخل والذي يبرر تلك الإجراءات ويقلل من أهميتها أو قسوتها ، لأن السيسي مدرك أن أثر الخارج أقوى وأمضى في هذا الموضوع تحديدا ، كما أن رهانات مصر السياسية والاقتصادية والتقنية والعسكرية كلها متصلة بالخارج برباط وشيج ، ولا يمكنه أن يدير ظهره طويلا لهذه المؤثرات ، خاصة وأن الأمور تزداد سوءا في الداخل ، والغضب يتنامى بوضوح تام ، وأعتقد أن تقارير أجهزته تطلعه على ذلك ، وبالتالي فلن يكون أمامه سوى الاختيار بين مسارين لا ثالث لهما ، إما المسار الإصلاحي الذي ينهي الانقسام الوطني ويعيد الاعتبار للحريات العامة وحقوق الإنسان وسيادة القانون والعدالة بمفهومها الشامل ويطلق طاقات الجميع لبناء وطن جديد ، وإما أن ينغمس أكثر في مسار السيطرة والقمع والقوانين المقيدة للحريات والتوسع في الاعتقالات والمحاكمات في ظل أوضاع اقتصادية بالغة السوء ، وهو مسار أثبتت التجارب كلها ، قديما وحديثا ، أنه ينتهي بالنظام إلى الرحيل الاضطراري . المصريون
مشاركة :