مسرح سلطان في قلب اللحظة التاريخية

  • 11/4/2015
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

أصدر الكاتب البحريني د. إبراهيم عبد الله غلوم كتاباً عن دار الانتشار العربي في بيروت بعنوان مسرح القضية الأصلية - البنية الفكرية في مسرح الدكتور سلطان بن محمد القاسمي في 311 صفحة من القطع المتوسط، ويشير د. غلوم إلى أن مفهوم البنية واسع وغني ويتمتع بقوى تعبيرية غير مقيدة.. إنه مفهوم يستوعب كل ما تختزنه الذاكرة، وكل ما نتلفط به ونراه ونسمعه د. غلوم الذي بنى كتابه المهني والغزير بالمعارف المسرحية قسم مادته الى ثلاثة فصول مدعمة بالمصادر والمراجع الثقافية الموثوقة، ومهد لكتابه بمقدمة تحت عنوان سؤال التجربة، سؤال المرحلة ننشر منها هذا الجزء الذي يسلط الضوء على التجربة المسرحية لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، ويبين د. غلوم في مقدمته أيضاً ملامح منهج دراسته التي ضمها الكتاب، كما ويشير إلى البنية الفكرية في المسرح الإماراتي بشكل عام. د. إبراهيم غلوم له إطلالة تاريخية واسعة على المسرح في الخليج العربي بشكل عام، وله 17 كتاباً نقدياً وخمس مسرحيات. وهنا ننشر جزءاً من مقدمة الكتاب: من بين ما قرأت في المسرح العربي في سنوات ما بعد الاجتياح (العقود الثلاثة الأخيرة) لم أجد أحداً من الكتّاب من يتوقف عند اللحظة التاريخية الخاصة بهذه المرحلة كما وجدت ذلك في نصوص الدكتور سلطان بن محمد القاسمي المسرحية التي كتبها في ذروة مرحلة ما بعد الاجتياح منذ 1997، وحتى الآن، لقد استغرقت هذه النصوص وعددها تسعة نصوص أكثر من خمس عشرة سنة من الوعي الزمني لكنها استوعبت وعياً أبعد من ذلك بكثير، وأدق ما استوعبته هو سؤال المرحلة. مرحلة ما بعد الاجتياح، فما إن فرغت من قراءة هذه النصوص حتى وجدت نفسي أمام استفهام فلسفي، هو ذاته الاستفهام الذي يسوقه لنا ضياع الإرادات العربية في مرحلة العقود الأربعة الأخيرة. لقد حول الدكتور القاسمي سؤال المسرح العربي من منطقة التردد بين النموذج التراثي والنموذج الغربي إلى نموذج ينفتح على نمط معرفي لا يكترث بالقالب، أو الشكل، وبما إذا كان متصلاً بجذور عربية، أو متصلاً بجذور غربية، فالتأصيل لا يقع في الشكل وإنما يقع في جوهر الفن المسرحي.. وهذا الجوهر له بنيته الأساسية من حيث هو مسرح، أينما وجدت هذه البنية بصرف النظر عن دعاوى الأصالة العربية، أو عدمها، لقد علقت دعاوى الأصالة بالمسرح العربي منذ بداياته الأولى، ولم تزل عالقة به، لدرجة تحولت إلى بنية تقارب بنيات التوطين والتأصيل والتعريب ونحو ذلك مما يعتبر ضرباً من التوريث للانغلاق. والتوريث نسق دوغمائي، يلهث وراء إحالة أي نمط عربي قديم غالباً إلى مشهد اللحظة.. لقد حول هذا النسق المسرح العربي إلى مسرح عبر تراثي، لم يستطع النظر إلى ما هو أبعد من الرموز الأبدية للسلطة، والتي تنحدر من ميراث ثقافي شعبي عربي غزير، وممتد عبر كل المراحل التاريخية. إن البنية الأساسية لمسرح الدكتور القاسمي تذهب بنا مباشرة إلى ما نفكر.. وكيف نفكر.. وكيف نجعل كل ما حولنا حاضراً في تفكيرنا، إنها تقف بنا عند حافة سؤال الإرادة العربية، إلى أين نسير ونحن ما زلنا نعيش سنوات الاجتياح؟ هل نذهب إلى التاريخ أم إلى الدين.. أم إلى رموز الحكايات والميثولوجيا والأساطير والمعتقدات؟ هل نذهب إلى الآخر الذي يتربص بنا.. أم نبحث عن إرادتنا المضيعة؟ كيف نحول الحدث الأساسي في حياتنا إلى حدث أساسي في لحظتنا، وليس لـ لحظة عفت عليها الرموز، والقرون؟ هل آن أوان الرموز المقدسة نجتر عقدتها بمرارة ورغبة في الثأر والاسترجاع والحنين، أم هو أوان الوعي بالإرادة وإدراك الضرورة؟ هل نعيد تمثيل نموذج الحروب الصليبية، أم نعيد نموذج التعايش الذي أصلته المدن العربية العريقة؟ رجيع الأسئلة لا يكف رجيع هذه الأسئلة مع قراءة نصوص الدكتور القاسمي، ولا يتوقف هاجسها مع نص دون آخر، إنها تخضع لنوع من التضايف المدهش، فالعلة واحدة تطرقها أسئلة متعددة، لكن إسقاطاتها وتبادلاتها ممتدة ومفتوحة، ولقد استوقفني ذلك كثيراً، فأعدت قراءة تلك النصوص أكثر من مرة، فازداد سؤالها حضوراً، وازدادت محايثة حضور بعضها في بعض، ثم وجدتني أقرؤها جميعاً بمثابة نص واحد، وأقرأ معها الكتابات التاريخية للدكتور القاسمي حول: القراصنة، والقواسم، والإمبراطورية العمانية، وأرشيف المستشارين الإنجليز ونحو ذلك.. كل هذه مع النصوص المسرحية وغيرها صارت بمثابة نص ممتد (وحدة نصية) لا يمكن فك أسئلتها عن واحد منها دون الآخر.. بنية السؤال واحدة، بينما النصوص مترامية، متعددة بين مسرح وتاريخ ورواية وسيرة ذاتية.. وقد راودتني فكرة تحليل كل النصوص بمنهج نقدي ثقافي شامل، لكن، سرعان ما وجدت في فلسفة البنية ما يضيء لي طريقاً آخر.. لقد نظرت إلى تلك الأسئلة أول الأمر بشيء من الشك، وأحاطني تكرارها.. وتكرار حبكاتها في نصوص الدكتور القاسمي بنوع من التردد، لكن سرعان ما وجدت في التكرار هذا بنية تصلني ببنية أعمق منها، وتدريجياً لم أجد نفسي قادراً على مغادرة الطابع العضوي الذي ينظم تجربة الدكتور القاسمي كلها، لقد كان من الضروري أن أجد طريقة منهجية أسند فيها جميع الأسئلة، أو الأحكام إلى قاعدة أساسية.. وهذه مسألة لا يمليها الضمير الفلسفي للناقد فحسب، وإنما تمليها تجربة الدكتور القاسمي نفسها.. إذ إنها تجربة ليست عادية، ولا يمكن مقارنتها بالكثير من تجارب كتابة النص المسرحي في الخليج والوطن العربي. لقد كان ظهور هذه التجربة في سنوات مرحلة الاجتياح بالذات تاريخياً، فقد أعاد الدكتور القاسمي طرح سؤال الماضي في مقابل الآن، وحفر بقوة في هوة النسيان، فأعاد إلى الذاكرة العربية سيرة الإرادة والسيادة، وسيرة المدن المقدسة، والرموز متجذرة كانت أو متحجرة. ولم يكن من العادي أن تتوالى نصوص الدكتور القاسمي متشبثة بحبكات تدور حول عقدة سقوط المدن، وسقوط الخلفاء، وسقوط الملوك والجبابرة وأرباب الدعوة، توالى مشهد سقوط هؤلاء في حالة مضطربة تترك الأبواب مشرعة للغزاة والدعاة. ترى هل يمكن وصف ذلك في سياق بداهة الصدف.. أم أن وراءه سؤال لحظة، لم يتوقف عندها أحد في المسرح العربي؟ إن حالة من الاندغام تعبر عنها تجربة الدكتور القاسمي بصورة تستحق التأمل والدراسة فعلاً. ذلك أنه يضع، أو يجمع حزمة من الضفاف من أجل وصف انتظام رمزي واحد، فلقد وصفت مسرحيات الدكتور القاسمي الإجراءات القانونية (البروتوكولية) التي رتبت سقوط المدن القديمة، بذات الطرق التي ظهرت بها إجراءات سقوط المدن الحديثة الآن. ولقد ترددت نفس الجمل، والمواقف. وانتكست الرؤوس لحظة انكسار الإرادة بذات الطريقة، وانتهكت القوانين، وتطايرت رؤوس الضحايا بذات الطريقة. وظل نموذج اجتياح الإسكندر الأكبر (قبل أكثر من 2000 سنة قبل الميلاد) نموذجاً صالحاً للاستمرار عبر مغول، وفرس، وصليبيين، وأتراك، وإسبان، وإنجليز، وأمريكان. وفي حلقات تصقل بعضها بعضاً على مر السنين. إنه ذات النموذج الأول، وبذات دعاوى الحداثة، والمركزية المدنية، والدين، والقانون. هذه بنية سؤال الإرادة وسيادة الذات العربية، بنية تقرب لنا صورة لتراجيديا تاريخية ممتدة، لا تكمن لغتها، وعلاماتها في النصوص المسرحية للدكتور القاسمي فقط، وإنما تكمن في مجمل ما كتبه على الإطلاق. ومن النادر أن نجد سؤالاً شاخصاً على هذا النحو من الوعي الزمني بأحداث العقود الأربعة الأخيرة في الوطن العربي في تجربة مسرحية واحدة. كما نجده في تجربة الدكتور القاسمي.. ذلك أن قاع حياتنا اليومية، وثقافتنا المبتذلة من العمق بحيث إننا في مشهد دائم من النسيان، ولذلك من الصعب أن نمتلك سؤالاً يمتد بشكل عضوي في حياتنا، وتجاربنا، وتأملاتنا الفكرية. منذ عصر الإسكندر، وحتى عصر 11 سبتمبر. إن السؤال الشاخص في تجربة الدكتور القاسمي لا يبرؤنا من نزوع الميتافيزيقا، لكنه لا ينفي كونه الأساس لسيرورة كل شيء، أو المعنى لكل فكرة، ولست أعرف سراً لتناغم هذه الدراسة مع تجربة الدكتور القاسمي في بحث ذلك الأساس الأول سوى أن هاجس رعب السؤال الفلسفي أكبر من أن يحده نص عابر، أو تجربة محدودة الأفق، ضيقة الممارسة. فقد كان سؤال هذا المؤلف المبدع حاضراً منذ عام 1962 عندما قدم مسرحية وكلاء صهيون. وبين ذلك العام، وسنوات الاجتياح في العقود الأخيرة فاصل زمني كبير، لكن بنية السؤال قائمة وفاعلة.. ولا أظن فلسفة البنية غير قادرة على أن تلقي لنا ضوءاً لفهم ذلك، فالرموز والعلامات حية لا تموت، بل إن الكثير منها لا يخرج عن اللامتناهي. لقد طرحت مسرحية الدكتور القاسمي تلك، (وهي من نصوص البدايات الأولى للمسرح في الإمارات العربية المتحدة) رموزاً هي من قبيل الأساس الذي له سيرورة في كل شيء، فوكلاء صهيون، والمواطنون الذين قطعت أذرعهم، رموز لا تزال تشكل بنية للسؤال الراهن، هل منا من لم يواجه هذين الرمزين بمؤولاته، ومعتقداته ووعيه المسبق؟ وهل منا من لم يكوّن من هذه المؤولات رموزاً جديدة؟ وهل منا من لم يفتتن بالتكرار في ذلك؟ وكأن سيرورة ذلك المعنى الذي طرحه الدكتور القاسمي منذ 1962 لا تزال تحايث كل ما نفهم. أما حالها في تجربة المؤلف نفسه فقد ظلت في صعود رمزي يخرج من تأويل ليدخل في تأويل، فمن الصليبيين إلى هولاكو والمغول إلى العلقمي والبغدادي، وإلى الإسكندر الأكبر وأبو عبد الله الصغير، وإلى النمرود والقرامطة وشمشون الجبار.. والى غير هؤلاء، يمتد اتساع البنية، وتمتد حياة الرموز، ويدوي انفجار السؤال. سيرورة لا ينتهي لها وقع.. ولا تتوقف لها لغة، ولا يكف من جرائها رعب الاجتياح. ثلاث بنيات وفي سياق موضوع هذا الكتاب، أرى من الضرورة الإشارة إلى مسألة دقيقة ومهمة تتصل بالمسرح في الإمارات العربية المتحدة، وهي مسألة لا تخص مشكلات هذا المسرح من حيث الإنتاج، والجمهور، والمرافق، والهياكل المسرحية ونحوها، وإنما تخص بنيته الفكرية، والتي يذهب هذا الكتاب لمعالجتها في نموذج تجربة الدكتور سلطان بن محمد القاسمي. لقد سعى هذا المسرح إلى مقاضاة الواقع بجرأة شديدة، وكشف بلا هوادة فظاظة هذا الواقع عبر ثلاث بنيات، قد تختلف تكويناً ووعياً ولغة، ولكنها تلتقي فوق أساس نقدي مشترك، يكاد يوجه سيرورة كل البنيات السطحية الأخرى. (وهو كل شيء يضخ باللاعقلانية في الواقع). وهذه البنيات الثلاث هي: 1- بنية ثأر الماضي وهي بنية أساسية في المسرح الإماراتي تعبر عنها معظم نصوص كتاب المسرح. وتتمثل ظاهرياً في حنين جارف للماضي، ورغبة مستمرة في استعادته، وجعله موجوداً عبر وعي زمني يصر على الامتثال والتشخص، في مواد، وأشياء، وحكايات، وميثولوجيا، وفي بيوت آيلة للسقوط، أو في سينوغرافيا مسحورة بعتمة الرموز. الماضي في نسق هذه النصوص يلفظ أنفاسه الأخيرة، لكن حضوره المتداعي جارح لحد الثأر، والاقتصاص. يتشبث في الوجود كموجود بتقنيات حسية، بصرية برع المخرجون في تحويلها إلى حضور نقدي يسعى إلى إقامة مواقف عقلية، تقاضي حضور الحداثة، وما بعد الحداثة. ويمثل التحول من الحسية، والتجريبية البصرية في هذه النصوص إلى العقلية الثأرية السيرورة العميقة لهذه البنية، ذلك أن الماضي حين يكون غياباً في الوجود، يكون - بالضرورة - موجوداً في الغياب. وبذلك لا يأتي الماضي إلا من أجل أن يجرع اللحظة بهذه المرارة المؤلمة، وفي ذلك نعي شديد اللهجة لعمران الحياة الجديدة والاقتصاد الجديد. وتكاد تكون نصوص إسماعيل عبد الله مثالاً نموذجياً لثأر يتصاعد إلى درجة الإمساك بلحظات تراجيدية نادرة أحياناً، كما في صهيل الطين التي اقتصت للماضي الميثولوجي الأول للاضطهاد. 2- بنية ثأر الآخر وهي بنية فرعية، ربما انحدرت من الأولى. لكن ينفرد المسرح الإماراتي بحضورها بشكل يثير الكثير من الأسئلة، لا يسمح سياق هذه المقدمة بإثارتها. لكن ما ينبغي الإشارة إليه هو أن عدداً كبيراً من النصوص المسرحية قدمت صورة الفنان (الشعبي غالباً) بوصفه الآخر الذي يثأر بذاته، ووعيه، وفنه من الواقع، فيكون بذلك بمثابة الآخر/الذات الذي يقتص - وبقوة - من آنية اللحظة الراهنة. لقد صاغت هذه البنية أبطالاً يميزهم هاجس الفن بكل ما فيه من روح الشجن والحرمان، ويقصيهم مجتمعهم بكل العنف، ويتربصهم بكل التهميش والنسيان، تنطلق أنغامهم وسيرة حياتهم بين الناس، وكأنها تفسر الأصل الأول الذي أنشأ الأشجان العميقة في الفن الشعبي، إنهم يغنون آلامهم وسط من كانوا سبباً فيها. ولأن معظم هؤلاء الأبطال من العبيد والخدم والفقراء المعدمين فإنهم يشكلون ميثولوجيا اضطهاد الآخر. ولا تخلو تجربة معظم كتاب المسرح الإماراتي من هذه الصيغة الدرامية، لأنها تذهب إلى الكشف عن الجانب المرهف في لغة ثأر الماضي من جهة، ولأنها تعيد الاعتبار لجوهر الفن، بوصفه حقيقة ذاتية لا يمكن إعماؤها بتوغل الحداثة، والرفاهية. 3- بنية ثأر اللحظة وهذه بنية أساسية مختلفة تماماً عن البنيتين السابقتين. إن بنية الماضي قوية، وذات ذرائع إنطولوجية بدون شك، لكنها تتناقض مع الوعي بـ اللحظة، إنها لا تستطيع أن تتحكم في قوانين ليست من صنعها، مهما تعلقت بدفء الأخلاق، ورومانسية العهد الأول للأشياء. وأخطر من ذلك وأبعد، أن بنية الماضي تقدم وعياً (أعلى) يقع فوق وعي الحاضر، ويتقدم عليه، وبذا تبدو صيغته الدرامية عبثية. أما الوعي بثأر اللحظة فعكس ذلك تماماً. إن اللحظة فقط هي نقطة تماسها، وترددها الدرامي. وفي المسرح الإماراتي تجارب لكتابة نصوص من نسق هذا التردد والتماس مع اللحظة ولكنها تجارب منقطعة، أو متحولة، أو تمر مروراً عابراً، بل إن كتاباً لهم مكانتهم وتأثيرهم عبروا هذه البنية، دون أن يقيموا فيها بالقدر الذي يحولها إلى قضية أصلية، وبالنسق الذي استقرت عليه تجربة الدكتور القاسمي. وليس من السهل أن تنتظم القضية الأصلية في فكر أي كاتب، أو مبدع. كثيرون يكتبون عشرات من النصوص، لكنهم لا يستطيعون وضع بنية أساسية لما يفكرون ويبدعون، وذلك لسبب بسيط هو أن الفن، أو الكتابة بالنسبة لهم أدنى من أن يكون في مرتبة العلو أو الأصيل مما يفكرون فيه، وما نفكر فيه معهم أيضاً. وهذا يعني أن الوعي بالقضية الأصلية يرتبط بالتكوين الأول للتجربة وبديمومة الهاجس الفكري، وبخصوصية التجربة، وذاتيتها وأخيراً بسيرورتها الصارمة التي لا هوادة فيها. وهذه شروط أربعة تتوافر كاملة في تجربة الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، فقد ارتبط تكوينه الأول بالحركة الوطنية والسياسية والثقافية في بلاده، وفي الوطن العربي. ثم لم ينقطع هاجسه الوطني والقومي حتى هذه اللحظة، ثم اندغمت تجربته تلك مع إحساسه الخاص والعميق بما حل بقوة القواسم السياسية والاقتصادية من عدوان الإنجليز، ثم دأب على مدى وعيه، ومسخراً كل ما يملك من طاقة من أجل بناء نسق محدد من الوعي بذاته، والوعي بالتأسيس الجهادي للقواسم، والوعي بمفهوم الإرادة. هذا هو مناط الوعي بالرؤية الشاملة.. أو بالنسق المكون للبنيات المتعالقة، أو بالقضية الأصلية التي يطلقها هذا الكتاب على تجربة الدكتور القاسمي. الفكرة الأسمى الحق أني لم أرض بهذه الصيغة عبثاً - رغم روحها المنطقية - وإنما اخترتها لأنها تتجاوب مع وجود الفكرة الأسمى لكل المشكلات التي نظر إليها الدكتور القاسمي، كما ستبين هذه الدراسة بالتفصيل. وتصعد بكل المشكلات، صغيرة كانت أو كبيرة إلى مستوى الوعي بلحظة يكمن فيها معنى السمو.. قضية ليس من اليسر بلوغها دوماً.. لأنها تتطلب الكثير من التضحيات، والصبر والحب، والذكاء والقدرة على التوازن والتحفظ رغم كل الملكات والقدرات المتاحة. إن وجود يقين بمبدأ ما.. قضية ما، يفتح المجال لرؤية المشكلات جميعها في سيرورة واحدة. بل ويحول مجرى كل حدث سواء جاء من التاريخ، أو من الأساطير، أو من الواقع عند بؤرة الوعي بـ بنية اللحظة. من هنا تفترض هذه الدراسة بأن الحدث الأساسي الذي شغل الكتابة الدرامية عند الدكتور القاسمي، هو حدث يتردد الآن، لكنه لا يقطع وعيه عن التاريخ وحكايات الميثولوجيا والأساطير، فأينما حلت الرموز المقدسة، واستبدت وتأبدت، امتد لها الوعي بالقضية الأصلية، ولا يمكن لنا أن نفصل نسق مثل هذا الوعي عن حراك تأويل الرموز عبر العصور، ولا عن حراك الوعي التاريخي، ولا عن الوعي الزمني بالدين، ولا عن الوعي بتاريخانية الاجتياح منذ نماذجه الأولى، وحتى النموذج الراهن الذي يحول دون امتلاكنا للإرادة. إن نسق بناء القضية الأصلية نسق معرفي.. وهو - في نمطه الحديث بالذات - يلغي مسافات الزمن، ويعيد سجال المعاني والأفكار والرموز إلى ما قبل التاريخ، وما بعده بذات الدرجة من الحساسية والاعتبار. في ضوء ذلك لم تسأل هذه الدراسة عن جنس نصوص الدكتور القاسمي، ولم يشغلها سؤال ما إذا كانت مسرحيات تاريخية، أو سياسية، أو اليجورية (تصوير الأحداث والشخصيات بوصفها معادلاً رمزياً)، وإنما شغلتها كيفية بناء الحدث الأساسي وفي سياق علاقة مضطردة بين مقاربة الوعي الزمني للمؤلف بالوعي الزمني للمتلقي، وكيف قاد ذلك إلى استعمال آليات وتعاضدات وتعالقات بنيوية، ذات أثر كبير في بناء وحدة درامية (وحدة النص) لمجموعة كبيرة من الترددات والانزياحات. وإذا كان لابد من عدم تجاهل سؤال الآن في كتابات الدكتور القاسمي المسرحية والتاريخية، فإنه لا يمكن أيضاً تجاهل زمن الاجتياح الآن، منذ اجتياح الإنجليز لرأس الخيمة عام 1819م وحتى سنوات الاجتياح التي نعيشها اليوم في بغداد والشام والقدس. كما لا يمكن تجاهل نماذج الاجتياح الأولى. فالزمن يتردد في ذات اللحظة بأكثر من مستوى، وأكثر من رمز، وحين تحيلنا حبكات الانزياح عند الدكتور القاسمي إلى التزامن، أو التردد فذلك لأن التاريخ والرموز والنماذج الأولى لا تكف عن الاستعمال والتداول أبداً. إن الشعور بوقع حدوث الآن في كل الحبكات التاريخية التي بناها الدكتور القاسمي هو استجابة عقلية، وتجريبية لوعي بأن زمن القضية الأصلية لا يفرط في الحدث الأساسي لـ اللحظة. والزمن في هذا الحدث زمن لا نهاية له، لأنه زمن التاريخ، زمن الدين، زمن الميثولوجيا، وقبل كل شيء زمن الإرادة التي ينبغي أن تكون.

مشاركة :