اقترنت أحلام الإنسان دومًا بالتحليق، وحاول أن يقلد الطيور التي قاومت جازبية الأرض، فصنع جناحين لم يخفقا كما أراد، فأخفق. ثم جاء العلم، فجعل للآلات أجنحة تحمل الإنسان للفضاء وتطير به تحت أكثر من سماء، لكن يظل حنين البشرية للحلم الأول قائما، أن يطير الإنسان نفسه لا الآلة، لذا لم يكن هناك بد من الطيران بالخيال، في الأدب، والفن. أقرأ تلك الكلمات وأنا أشاهد أعمال الفنان ياسين حرّاز، التي ضمها معرضه (سحر المكان)، الذي تجول بنا في ربوع مصر بين أقصاء شمالها وجنوبيها، وشرقها وغربها، ويضع بديلا للإنسان وجناحيه في سماء لوحاته مركبا صغيرًا، يأتي وحيدَا على الأغلب، إلا من رفقة داخله، تبدو كأسرة صغيرة، أو رفقة جواره، مركب آخر أو أكثر، بشراع أبيض أو ممزق، يجمع بينها أنها مراكب مؤنسنة، كمركب صياد حلقت به قبل أن يتركها ويطير. لقد أخذ الرسام المركب الصغير إلى سماوات زارها بالمنطاد، فرأى ما رأى، وسُرَّ بما رأى، فأراد أن ينقل تلك البهجة البصرية لنا، وأن يستعرض بمفرداته الخاصة التي تعيدنا إلى أجواء الرسوم الكلاسيكية التي تعنى بالتفاصيل، فهي لا قدم بقعا لونية أو مساحات مبهمة، وإنما طبوغرافيا حية تكاد تغوص بك إلى كل عنصر فيها، بين البرلس التي رسم بعضا من أجمل مراكبها على مدى سنوات، لعيدنا إلى سحرها الخاص بغلاف شاف من الهدوء والسكينة، وأسوان في جنوب النهر الخالد، وسانت كاترين أيقونة معالم شبه جزيرة سيناء، والفيوم: الواحة والمدينة والوادي. لقد وهب الخيال الفنان الأكاديمي ريشته، فصار يؤسس لمسارات المراكب في سماوات اللوحة، ومثلما تحلق الطائرات باختلاف شركاتها وماركاتها، في مسارات محددة بفضل الملاحة الجوية، تتهادى مراكب دكتور ياسين في مسارات مماثلة، فلا تتصادم ولا تتقاطع بفضل الملاحة التشكيلية للربّان الأكاديمي المولع بالدقة، فلو مددت رؤوس المراكب على خطوط ستجدها لا تتقاطع، وكأنه نسق لها حركتها، تحيط بالمكان وتحوطه، بحيطة، فينسكب الجمال حولها. دعوني أفكر في أمر آخر: في الوقت الذي تسبب فيه الطائرات والسيارات والقطارات، بل والمناطيد، كلها تسبب قدرا من التلوث البيئي، يأتي المركب الشراعي، بمجدافي الخشب والخيال وريشة الرسام، ليكون نصيرا للبيئة وحاميا لها من التلوث، لقد اختار التشكيلي المصري المركب ليكون رسالة: لكي تحافظوا على هذا الجمال، امنعوا التلوث. في لوحة ستجد أنك أمام ملصق بانورامي، وفي أخرى ستشاهد لقطة كأنها بعدسة كاميرا بولارويد فورية، وفي لوحة ثالثة إطار داخل إطار، وكأنك أمام شاشة سينما أو تلفزيون، وكأن الفنان يدعونا لكي نرى اللوحة من مرشحات تقنية بصرية عصرية، وكأنه يريد أن نغمض عيوننا فلا نرى سوى لوحاته. يريدنا الفنان أن نشاركه الخيال. لكننا بحاجة للخيال كذلك لنكمل اللوحات، فنحن بمنتصف الرحلة وقلبها، لذا سنرى جزءا من الجبل، قمته أو بدنه، وسنشاهد بداية الميناء أو نهايته، وسنتوقف عن أول الجزيرة أو آخرها، وسنتعرف على قسم من الوادي أو النهر، وعلى خيالنا أن يستكمل باقي ذلك كله، وكأنه وعدٌ بسحر خفي، سحر المكان الخالد. الفنان في معرضه الرسالة التشكيلية والفنية توازيها رسالة أخرى لا تقل أهمية، وهي الرسالة السياحية. بالنسبة لي كان توقف السفر إلى خارج مصر بسبب ما نُكب العالم به، وقد رأيت أن في كل نقمة ظاهرة نعمة خفية، لذلك اتجهت إلى بقاع في مصر أزورها، وأرى أن الفنان يهيء لزوار معرضه أماكن ساحرة ( يستمر حتى 13 نوفمبر الجاري بقاعة آرت سمارت بجاليري “تام جاليري” بطريق مصر الإسماعيلية الصحراوي) فرصة للتعرف على معالم مصر السياحية التي تستحق الزيارة، وهي معالم جميلة، جعلتها ريشة حرّاز أبهى.
مشاركة :