حفيدة إبراهيم ناجي تعيد اكتشاف سيرة شاعر الأطلال | مصطفى عبيد

  • 11/8/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

شخوص متميزون مروا أمامنا. أدباء وشعراء ومُترجمون وأصحاب أقلام من شتى المناحي تركوا لنا نصوصا حيّة لا تموت، تنفذ داخل نفوسنا، وتحاور أرواحنا فتُضيئها سحرا وجمالا. ننفعل معهم ونعايش لحظاتهم المفعمة بالأحاسيس ونظن أننا نعرفهم حق المعرفة، لكن بعد سنوات يدفعنا الشغف للنبش في سيرهم لنصطدم بمفاجآت. هذا ما حدث بعد صدور أحدث كتاب تناول سيرة الشاعر الراحل إبراهيم ناجي المعروف بشاعر “الأطلال”، قبل أيام عن دار الشروق بالقاهرة وحمل عنوان “إبراهيم ناجي.. زيارة حميمة تأخرت كثيرا” للكاتبة والباحثة سامية محرز أستاذة الأدب العربي بالجامعة الأميركية في القاهرة. يعيد الكتاب اكتشاف شخصية الشاعر الرومانسي المولود عام 1897، والراحل في مارس 1953 عبر أرشيفه الشخصي. أوراقه غير المنشورة ومفكرته الصغيرة وصوره الفوتوغرافية وخطاباته وحكايات العائلة. كتاب مختلف تميز الكتاب بسمتين فارقتين تجعله يختلف عن الكتب السابقة التي تناولت سيرة الشاعر الطبيب. الأولى هي عاطفة العلاقة بين الكاتب وصاحب السيرة، فسامية محرز هي حفيدة الشاعر مباشرة عن طريق الأم. والسمة الثانية تتمثل في ما تضمنته الأوراق غير المنشورة من مفاجآت، أبرزها توثيق حكاية البطلة الحقيقية لقصيدة الأطلال التي غنتها المطربة أم كلثوم، بعد تكهنات متباينة عبر الأزمنة دارت بين الفنانة زوزو حمدي الحكيم وأخريات. تقول سامية محرز في لقاء مع “العرب” إن الكتاب بمثابة رحلة تعارف بينها وبين جدها الذي توفي قبل مجيئها إلى الدنيا بعامين، فعرفته من خلال الحكايات والحواديت داخل الأسرة عن طريق أمها وخالتها قبل أن تتعرف عليه داخل الأسرة الكبيرة في المجتمع الثقافي. قررت سامية محرز البحث في الأوراق الموروثة والمنتقلة من صاحب السيرة إلى خالتها ضوحية، ثم إليها بعد عبارة لافتة ومؤثرة قالها لها جمال الديب الراحل الغيطاني مطلع الثمانينات عندما سألها خلال زيارة لها عن سبب وجود صورة فوتوغرافية للدكتور إبراهيم ناجي في برواز كبير معلق في بيتها، فقالت له “إنه جدها” ففاجأها بقوله “إنك تشبهينه”. بعد ذلك تولّد لديها اهتمام وشغف يخفت حينا ويتوهج حينا آخر، فتتبعت سيرة جدها وغاصت في أوراقه وخطاباته لتكتشف جوانب خفية في حياته، بما يجعلها مأساة كاملة الأركان تسير على قدمين. عانى الشاعر الطبيب الذي عمل في عدة إدارات حكومية في مصر خلال العصر الملكي، قبل ثورة يوليو 1952، من سوء الأحوال المالية والعوز الشديد والمرض رغم مواهبه وتفوقه العلمي. تؤكد محرز في حوارها مع “العرب” أن الكتاب ليس سيرة للشاعر الرومانسي الكبير، وإنما هو زيارة جديدة لسيرته، بمعنى إعادة اكتشاف تعتمد على مادة جديدة هي الأوراق الخاصة. وتقول “زيارتي تأخرت لأني كنت أقاوم منذ الصغر الكثير من توجيهات العائلة لي لتكرار الجد أو التشبه به بعد تخصصها في دراسة الأدب العربي، كانت العائلة تكرر أنني سأصبح مثل جدي، وكنت أقاوم ذلك فتخصصت في الرواية بدلا من الشعر، ولم أدرسه قط”. وجاءها التحول بعد أن تجاوزت عمره عند وفاته، إذ رحل وعمره 56 عاما، فحينها شعرت أن الوقت حان لتشن حملة تفتيش على أوراقه الشخصية ومسودات أشعاره، وذكريات عنه سبق أن تعرفت عليها مبكرا. وردا على تصور البعض بوجود انحياز تجاه صاحب السيرة، مادام الكاتب هو أحد أفراد عائلته، تقول محرز لـ”العرب”، “لم أكن أعرف إبراهيم ناجي رغم أنه جدي، بل قاومت ذلك سنينا، لكن عرفته بعد عكوفي على دراسة أوراقه جيدا”. وتوضح أن الكتاب يمثل محاولة للاطلاع على حال المثقفين المصريين في مرحلة ما بعد الحب العالمية الثانية، وكيف كانوا حداثيين ومتابعين لكل طرح فكري وإبداعي في العالم. البطلة الحقيقية تؤكد سامية محرز أن الكتاب زاخر بالمفاجآت العديدة لكن حكاية البطلة الحقيقية لقصيدة الأطلال تمثل اكتشافا مهمّا، إذ رفض الشاعر التصريح باسمها خلال حياته، واختار لها رمز “ع. م”، فاجتهد المثقفون بعد رحيله في محاولة التعرف عليها لدرجة أن الشاعر صالح جودت ادعى أنه يعرفها حق المعرفة، وأن الحب كان من طرف واحد. ووصل الأمر بأحد المثقفين أن كتب أن الشاعر صالح جودت أخبره قبيل وفاته بالاسم الحقيقي لبطلة القصيدة وهو عنايات محمود الطوير، ثم اكتشفت الباحثة – الحفيدة أنها أكذوبة، مشيرة إلى “انعدام التوثيق وسذاجة الحكي والاستخفاف بتاريخ الرموز الثقافية”. وتحكي محرز رحلتها للوصول إلى الحبيبة الأولى للشاعر، حيث عرفت من حفيد إحدى جارات الشاعر أن جدها تقدم رسميا، وهو طالب في كلية الطب، لخطبتها وهي علية الطوير وليست شقيقتها عنايات الطوير، كما زعم صالح جودت، لكن الطلب رفض، وتزوجت عام 1923 وسافرت مع زوجها إلى أوروبا ثم عادت بعد سنوات. وتابعت المؤلفة قائلة “وجدت في أوراق جدي بتاريخ العاشر من ديسمبر 1946، أي بعد ثلاثة وعشرين عاما من الواقعة، إشارة منه إلى أن (ع) هاتفته، وطلبت أن يزورها وتحدثا بعد مرور السنين، وقالت له إن الذنب ذنبه، وعلق قائلا ليت الزمن يشهد علي وعليها”. كما ذكر إبراهيم ناجي في أوراقه في يناير 1947 اسمها كاملا علية عندما كتب عن وفاة شقيقتها وزيارته لها ليقول “لقيت علية من جديد.. ما أعجب الزمن. وكانت تبدي شيئا من التحفّظ. لعنة الله على هذا التحفظ.. لقد كنت أنظر إليها كما لو كنت أنظر إلى شابة لم يتغير من معناها شيء”. وعلمت محرز من حفيد علية الطوير أنها توفيت في السبعينات من القرن الماضي، أي بعد ربع قرن من وفاة إبراهيم ناجي، وكانت في أواخر السبعينات من عمرها وعانت من الاكتئاب، وكانت تقول لنساء العائلة إن قصيدة الأطلال التي شدت بها أم كلثوم جمهورها وأبهرته كتبت في الأصل لها وعنها، لكنهن كن يسخرن منها. ويقول مطلع قصيدة الأطلال: يا فُؤَادِي رَحِمَ اللّهُ الهَوَى/ كَانَ صَرْحاً مِنْ خَيَالٍ فَهَوَى/ اِسْقِني واشْرَبْ عَلَى أَطْلاَلِهِ/ وارْوِ عَنِّي طَالَمَا الدَّمْعُ رَوَى/ كَيْفَ ذَاكَ الحُبُّ أَمْسَى خَبَراً/ وَحَدِيْثاً مِنْ أَحَادِيْثِ الجَوَى/ وَبِسَاطاً مِنْ نَدَامَى حُلُمٍ/ هم تَوَارَوا أَبَداً وَهُوَ انْطَوَى/ يَا رِيَاحاً لَيْسَ يَهْدا عَصْفُهَا/ نَضَبَ الزَّيْتُ وَمِصْبَاحِي انْطَفَا/ وَأَنَا أَقْتَاتُ مِنْ وَهْمٍ عَفَا/ وَأَفي العُمْرَ لِنِاسٍ مَا وَفَى/ كَمْ تَقَلَّبْتُ عَلَى خَنْجَرِهِ/ لاَ الهَوَى مَالَ وَلاَ الجَفْنُ غَفَا/ وَإذا القَلْبُ عَلَى غُفْرانِهِ/ كُلَّمَا غَارَ بَهِ النَّصْلُ عَفَا. أوجاع المثقف طرح كتاب محرز جانبا من معاناة المثقف المصري في الأربعينات من القرن الماضي في ظل أوضاع اقتصادية صعبة، وكان ناجي يعمل طبيبا في وزارة الأوقاف، إذ نجد في مدوناته شكوى دائمة من أعباء الحياة في ظل الحرب العالمية الثانية وما تركته من آثار اجتماعية سيئة، ففي مايو 1944 كتب في مفكرته “لم أحصل على شيء. لا علاوة هذا العام. قسمنا مظلوم”. في العام التالي خفضوا راتبه من 52 جنيها إلى 36 جنيها فقرر الاستقالة، لكنه عاد عنها بعد فشله في العثور على عمل، وكتب في الخامس عشر من مايو سنة 1945 “لست حرا. عدت إلى العمل وكتبت صك مذلتي بيدي. عدت ولا مكتب ولا مكان ولا شيء. مرت عليّ أسوأ شهور حياتي”. كما تطرح الأوراق اعترافات نفسية للشاعر قال في إحداها “إن خدمة الحكومة علمتني الجبن”، وفي أخرى اتهم نفسه بالإسراف الأحمق، وفي الكثير منها نعى ضعف عوائد عمله ككاتب قصة أو مقالات نقدية أو ترجمات للصحف في ظل قسوة الحياة. وأحد التساؤلات المهمة التي يطرحها الكتاب تخص أسباب عدم التفات الدارسين لمسيرة إبراهيم ناجي لكتاباته النثرية، رغم أنها أكثر غزارة من كتاباته الشعرية. وتوضح محرز أن الجميع يمر مرور الكرام على الأعمال النثرية، فيعددونها الواحد بعد الآخر بأخطاء فادحة في تواريخ نشرها، ويركزون على الشاعر الرقيق ويتناسون الطبيب والكاتب. ومن بين كتب ناجي المهمة كتاب بعنوان “كيف تفهم الناس” صدر في ديسمبر سنة 1945 يضم بحوثا ومقالات تتعلق بعلم النفس وسيكولوجية الأخلاق وسيكولوجية الطفولة والمراهقة ونفسية الجماهير وسيكولوجية الحب. وله كتاب آخر بعنوان “عالم الأسرة” صدر سنة 1947 تناول فكرة التربية والإصلاح والدستور الأخلاقي، فضلا عن رواية “زازا”، وهي رواية رومانسية صغيرة، بجانب كتاب غير مكتمل بعنوان “طبيب العائلة”. وتكشف سامية محرز في حوارها مع “العرب” أنها أبقت على الأخطاء في النصوص الأصلية للخطابات والأوراق دون تصحيح لأنها تعتبر أن التوثيق يلزمها بذلك، كما أن الأخطاء سواء كانت إملائية أو نحوية لها دلالات متعددة يمكن للباحث أن يوظفها في قراءة الوثيقة على مستويات متعددة. وسامية محرز أستاذة للأدب العربي، ومديرة لمركز دراسات الترجمة بالجامعة الأميركية في القاهرة، وصدر لها العديد من الكتب والدراسات باللغة الإنجليزية مثل “دراسات في أدب نجيب محفوظ” عام 1993، و”الحروب الثقافية في مصر” عام 2008، و”أطلس القاهرة الأدبي” عام 2010، و”حياة القاهرة الأدبية” عام 2011، ويعد كتابها عن إبراهيم ناجي أول عمل يصدر لها باللغة العربية.

مشاركة :