لا تزال أزمة كوريا الشمالية تشكل مشكلة كبيرة للإدارات الأميركية المتعاقبة من دون أن تشهد انفراجة فعلية تحقق التهدئة في شبه الجزيرة الكورية.. وقد حان الوقت لأن تسعى إدارة الرئيس جو بايدن لحل الأزمة من خلال انتهاج سياسة مختلفة بهدف الوصول إلى نتيجة مختلفة تركز على التعامل بدبلوماسية بعيداً عن العقوبات المتكررة التي لم تسفر عن حلول حتى الآن. وقد جدد الرئيس الكوري الجنوبي "مون جاي إن" دعوته لإنهاء الحرب الكورية بشكل رسمي، في الوقت الذي تطالب فيه كوريا الشمالية بثمن باهظ للقيام بذلك. وفيما يلي الحقيقتان الأساسيتان حول كوريا الشمالية اللتان يتعين على إدارة بايدن أن تضعهما في الاعتبار. أولاً: "كيم جونغ أون" ليس لديه أي نية للتخلي عن أسلحته النووية، بغض النظر عن عدد الحوافز التي تقدمها أميركا له. ثانياً: ستقوم الولايات المتحدة بردع بيونغ يانغ إلى أجل غير مسمى بغض النظر عما يفعله أو لا يفعله كيم. وقال دانيال إل ديفيس -خبير الشؤون العسكرية والسياسة الخارجية- في تقرير نشرته مجلة "ناشونال إنتريست" الأميركية: إن الهدفين الأساسيين لسياسة واشنطن الخارجية والعسكرية بشأن كوريا الشمالية يجب أن يكونا منع الحرب غير الضرورية وتعظيم قدرة أميركا على الازدهار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وتستطيع الولايات المتحدة العمل نحو الهدف البعيد المتمثل في إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية؛ وهو هدف جيد وذو أهمية كبيرة، لكنه ليس شرطاً مسبقاً بالنسبة للولايات المتحدة لتحقيق هذين الهدفين الأساسيين بشكل كامل. ويمكن أن يساعد التعاون الوثيق مع حليفتها كوريا الجنوبية والتعامل الدبلوماسي مع كوريا الشمالية في تسهيل تحقيق الهدفين. وربما تكون أكبر عقبة في طريق تقليص خطر الحرب الذي ابتليت به كل الإدارات الأميركية تقريباً منذ عام 2006، وهو الوقت الذي أجرت فيه بيونغ يانغ بنجاح أول اختبار لها لرأس حربي نووي، هي الإصرار المتشدد على ضرورة أن تنزع كوريا الشمالية سلاحها النووي تماماً قبل أن تتخذ الولايات المتحدة أي إجراء. واعتبر ديفيس أن رفض التعامل مع بيونغ يانغ إلى أن تنزع سلاحها النووي سيضمن أن كيم لن يواصل الاحتفاظ بأسلحته النووية فقط، وإنما سيغذي هذا أيضاً مخاوفه وهو السبب وراء تطوير كوريا الشمالية للأسلحة النووية في المقام الأول. ويعتقد كيم أن امتلاك رادع نووي موثوق به ضروري لمنع الولايات المتحدة من مهاجمة أو غزو بلاده. وبالنسبة لكيم، فإن بقاء النظام هو الهدف الأول. لذلك، من المستبعد للغاية أن يهاجم كيم الولايات المتحدة بضربة نووية لأنه يعلم أن القيام بذلك سيؤدي إلى انتقام نووي مدمر سيقضي على نظامه. ولذلك، فإن مسؤولية إدارة بايدن هي انتهاج سياسات وإجراءات تعزز الأهداف الرئيسة لتجنب حرب غير ضرورية وتعظيم الفرص الاقتصادية. ويمكن تأمين الهدف الأول من خلال الحفاظ على الجيش الأميركي قوياً ومدرباً بشكل جيد وحديث، بما في ذلك القوات التقليدية والنووية. وهذا أمر موجود بالفعل. ويقول ديفيس، وهو أحد كبار زملاء مؤسسة "أولويات الدفاع" البحثية، والضابط السابق بالجيش الأميركي إنه يمكن أيضاً حماية قدرة أميركا على تعزيز الفرص الاقتصادية في المنطقة بأفضل صورة من خلال إدراك قادتها بمزاياها العسكرية الكبيرة مقارنة بيونغ يانغ والدخول معها في دبلوماسية صارمة ولكن واقعية. وهناك طرق مختلفة يمكن لبايدن من خلالها تحقيق مصالح الولايات المتحدة في المجال الدبلوماسي. أولاً: يجب أن يستفيد بايدن من خبرة وحافز مون ويدعم بعضاً من مبادراته الرئيسة، حيث لا يوجد أحد معرض للخطر في حالة الحرب مع كوريا الشمالية أكثر من مون. وفي خطابه أمام الأمم المتحدة في سبتمبر، جدد مون دعوته لصياغة إعلان لنهاية الحرب مع كوريا الشمالية من أجل "تحقيق تقدم لا رجعة فيه في نزع السلاح النووي والدخول في عصر سلام كامل".وقال مون بطريقة عملية إن الهدف هو إحراز "تقدم" نحو نزع السلاح النووي، وليس "تحقيق" ذلك. إن إعلان نهاية الحرب لا يعني معاهدة سلام ولن يقدم سوى قدر من الرمزية، لكن مون يعتقد أن إنهاء الحرب بشكل رمزي سيقدم فرصاً إضافية لخفض التوترات وربط الكوريتين ثقافياً واقتصادياً. كما أن خفض التوترات في شبه الجزيرة الكورية ودفع السلام في مصلحة أميركا. ثانياً: من الممكن أن يأخذ بايدن زمام المبادرة لإجراء محادثات مباشرة بين واشنطن وبيونغ يانغ. وقد أجرى الرئيس السابق دونالد ترمب مثل هذه المحادثات اعتباراً من عام 2018، وأحرز تقدماً أولياً في خفض التوترات بين البلدين بشكل كبير. وللأسف، استمع ترمب إلى النصيحة المتشددة من مستشار الأمن القومي آنذاك جون بولتون خلال قمة عقدت في هانوي عام 2019، الأمر الذي تسبب في خسارة كل التقدم طوال الفترة المتبقية من ولاية ترمب... وأمام بايدن فرصة لتصحيح تلك الأخطاء. وفي سبتمبر الماضي، اعترف المسؤولون الكوريون الشماليون علناً بأنهم منفتحون على إجراء مناقشات مع إدارة بايدن. وهناك دوافع بلا شك لدى بيونغ يانغ لإجراء محادثات بهدف تخفيف العقوبات المفروضة عليها. ويرفض كثيرون في واشنطن مثل هذا الاحتمال إلا أن هذا موقف خاطئ. ورأى ديفيس أن قيمة العقوبات لا تكمن في فرضها، لكن قيمتها تكمن في نجاحها في تعديل السلوك في البلد المستهدف، وفقط مع احتمال رفع العقوبات يمكن أن يغير الخصم سلوكه. وسيكون بايدن حكيماً إذا استكشف إمكانية السماح بتخفيف موجه ومحدد للعقوبات مقابل دفع بيونغ يانغ إلى اتخاذ إجراءات تفيد أمن الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية (مثل التجميد النووي والتراجع عن البنية التحتية النووية الحيوية بشكل يمكن التحقق منه). وأشار ديفيس إلى أن إدارة بايدن ستظل في موقع قوة فوق كوريا الشمالية في أي مفاوضات لأنها يمكن أن تنسحب في أي وقت تقدم فيه بيونغ يانغ مطالب غير معقولة. وهي لا تحتاج إلى صفقة للحفاظ على البلاد آمنة أو للحفاظ على الفرص الاقتصادية الأميركية. إن كل ما تحتاجه الولايات المتحدة هو تجنب حرب غير ضرورية. واختتم دانيال ديفيس تقريره بالقول: إن الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون يعرف أفضل من أي شخص آخر أن قواته التقليدية والنووية يمكنها في أفضل الأحوال ردع غزو بلاده لكنها غير كافية مطلقاً للتفكير في شن هجوم غير مبرر ضد الولايات المتحدة أو كوريا الجنوبية. ولن يتخلى كيم عن رادعه الوحيد ضد هجوم أميركي في أي وقت قريب، لكنه سيظل في حالة ردع إلى أجل غير مسمى، ولذلك من المنطقي أن يستغل بايدن ومون هذا الوضع المميز في السعي إلى التعامل بدبلوماسية مع كوريا الشمالية.
مشاركة :