التناص، بوصفه أحد أبرز أساليب الأداء اللغوي في القصيدة المعاصرة، لا تقفُ حدود استعماله عند التداخل والتفاعل الدلالي في موضع بعينه من النص الأصلي والنص المُستدعَى، بل يتجاوز هذا إلى حدِ القدرة على تمثيل الدلالة المركزية والمناخ العام للتجربة الشعرية، كما في هذه القصيدة الماثلة بين أيدينا، قصيدة التباس للشاعر حسن الزهراني، والتي تهيمنُ عليها أجواءُ النص المُستدعى من الجملة الأولى، وصولا إلى الجملة الأخيرة فيها. النص المُستدعى هنا، هو الآيات القرآنية الكريمة التي وصفتْ رحلة المكابدة التي مرَّ بها موسى عليه السلام في تبليغ رسالته، وهي آيات توزعت على أكثر من سورة قرآنية، وقد بدا الشاعر، وكأنه يستضيء بدلالة هذه الآيات، ويتناص مع مبدئها ومناخها العام الذي جسّد لحظات القلق والاغتراب التي أحاطت النبي موسى وسط مُكذّبيه والمُتخلّين عنه، فضلا عما اعتراهُ من رهبة تلقّي كلمات الله، وما اختُصَّ به من معجزات لدعم رسالته . وفق هذه الحساسية الخاصة، تعامل الشاعر مع النص المُستدعى مرتكزا على مبدأ الانتقاء للأحداث المركزية التي ميّزت رحلة موسى، والتي أثمرت في تضافرها مع طرحه الشعري عن الرؤية التي حملتها هذه القصيدة . من هذه الأحداث : إبلاغُ موسى أهله بعثوره على نار يهتدي على ضوئها، رحلتُه إلى جبل الطور لتلقي كلمات الله، معجزة العصا وشقها البحر ، حاجته إلى مؤازرة أخيه هارون وفصاحته في دعوة فرعون إلى الإيمان . اتخذت هذه الأحداثُ في القصيدة هيئة مغايرة لتلك التي وردتْ بها في الطرح القرآني، هيئة تحوّلت بها من سياقها الديني المتعلق بقصة نبيٍ إلى سياق مغاير ، طرح فيه الشاعر ُ رحلته في البحث عن الكلمة الشاعرة، عن جدوى الشعر. وهنا يتبيّن للنقد براعة الشاعر في اختيار قصة موسى – لا غيرها من قصص الأنبياء - موضعا لاستدعائه التناصيّ، حيثُ مثَّلت الكلمةُ دوراً أساسيا في هذه القصة، وذلك في حاجة موسى إلى فصاحة هارون، تلقّيه كلمات الله، اعتبارية موسى الدينية : كليمَ الله. يدعم هذا الافتراض النقدي هذه المغايرة الدلالية التي أحدثها الشاعرُ للمواضع التي استدعاها من الآيات الكريمة، فقد أشار إلى ائتناسه بنارين لا بنار واحدة، وعدم عثوره على قبس، مصوّرا عصاه قادرة على شق الشعر لا البحر ، ومعاناته الجوع في وادي طُوى، وافتقاده مساندة أخيه، ومعاناته من خيانة صوته لفمه، مُلقيا ألواح المُنى، آمرا السامري بصنع فرس، اتخذه مطيّته للرجاء في نهاية رحلته . لقد اتخذت عناصر الصورة في قصيدة التباس كيفية مُستمدة من طبيعة الرؤية التي هيمنت عليها، كيفيةً طرحتْ وادي طوى رمزا للجوع، والألواح أماني ضائعة، والنار بلا قبس، والأخ بلا نُصرة، والفم بلا صوت . واحتفظ الشاعر وسط هذا المناخ الاستلابي بعنصرين اثنين: عصاه = قصيدته أو حرفه، التي شقّ بها بحر الشعر، والسامريّ الذي حمل على الصعيد الرمزي دلالة المُخيلة الشعرية والقدرة على الإبداع ، فكان هو الثمرة الوحيدة لتلك الرحلة الشاقة التي قطعها الشاعر في وادي الخوف دون دفء أو ضوء أو نصرة أو صوت، تلك الرحلة التي انتهت بامتطاء المُخيلة إلى سدرة خاصة - طُرحتْ في صيغة النكرة لتخالف توقعنا لسدرة المنتهى – هي سدرة الرجاء (ما ثلا في عسى)، بما يدفع الناقد إلى تلقّي هذه القصيدة باعتبارها رحلةً جوانيّة، يمّم بها الشاعر صوبَ الشعر الذي يُمثّلُ رجاءه الوحيد في قفر الوجود الإنساني، وطرق فيها أرضا غير مأهولة، في سعيٍ حثيث وسؤالٍ قلقٍ عن الكلمة التي هي أصل كينونته الشاعرة. وقد توسل في هذه الرحلة بطقوس روحية غير تقليدية، مرتكزا على أسلوب التناص – مع قصة النبي موسى عليه السلام – ليجّسد ذرى إجهاده وتفريده مغتربا . وقد وُظفت هذه التفاصيل توظيفا رمزيا، وذلك لأن التناص لم يقع مع الدلالة الحرفية للآيات، بل مع ملامح المناخ الاغترابي الذي حاصر موسى في أداء رسالته، حيثُ وُصف في القص القرآني مُحاصرا بالخوف والاغتراب والوحشة . وقد عبّر ضمير الأنا المتكلم – الذي هيمن على مدار القصيدة -عن هذا المناخ الاغترابي، وذلك في : آنستُ نارين، لم أجد قبسا، أُدفئُ نبضي بالحروف، لم أجد في " طُوى " إلَّا الطّوى، أنا، من دون " نعلين " أطوي دربي ما بين " طورين " ٍ ركضتُ وحدي، ألقيتُ ألواح المُنى، وقلتُ للسامري : ارجعْ، ركبت ( الفرس)، دنوت به من سدرة كبرى، قلت: عسى. كما صوّر الشاعرُ محاصرته - وانشطاره - بين نارين، من دون نعلين، بين طورين، وبين بحرين من دمه، وخيانتين: خيانة الأخ المُتخلّي، وخيانة الفم للصوت . وقد كانت هذه الثنائيات - في افتراضي - دعائم الالتباس الذي كابده الشاعر ، والذي حوصر فيه بهذه المكابدات التي أشار إليها إشارة رمزية من خلال التناص، والتي تكشفُ عن جوهرها المختبئ، حين يصور الشاعر انتهاء رحلته بامتطاء فرسه نحو الرجاء، في جنبات قصيدة تميزت بتكثيفها وطاقات تأثيرها النابعة من هذا التكثيف والاختزال الثري بإيحاءاته . رابط القصيدة https://t.co/kRyblL7WBK?amp=1%D8%AC ----------- التباس آنستُ نارين، لكن لم أجد قبسا فعدتُ أُدفئُ نبضي بالحروف أسى ولم أجد في«طُوى» إلَّا الطّوى، وأنا، من دون«نعلين» أطوي دربي النجسا ما بين«طورين» من خوفٍ ومن أمل ٍ ركضتُ وحدي، وكان الأمر ملتبسا وحين شقّت عصاي الشعرَ كان«دمي» بحرين، لم ألق في بحريهما يَبسا ولم يشد أخي أزري، وخان فمي، صوتي، وألقيتُ ألواح المُنى تعسا وقلتُ للسامري : ارجعْ، وصبْ لنا، من زينة القوم، يا وجه الأسى فرسا ركبته، ومضى، حتى دنوتُ به في الفجر من سدرةٍ كبرى، وقلتُ:عسى
مشاركة :