حلت منتصف الشهر الجاري الذكرى 58 لوفاة محمد المختار السوسي، الأديب والمؤرخ والعلامة، المنحدر من قرية إيليغ الواقعة في منطقة سوس في جنوب المغرب، وعين بعد الاستقلال في أول حكومة مغربية وزيرا للأوقاف، حتى وافته المنية عن عمر ناهز 65 عاما، في حادث سير في العاصمة الرباط 1963. خلف السوسي للخزانة المغربية والعربية ذخائر ثمينة ومصنفات نفيسة، في التاريخ واللغة والنحو والشعر والفقه والتراجم والرحلة والسير والتاريخ، فاق مجموعها 70 عنوانا، فصلها في نحو 120 جزءا، بعضها لا يزال مخطوطا مثل المجموعة الأدبية "جوف الفرا" (400 صفحة) التي قال عنها "كنت أجعلها سلة المهملات التي فيها من القصائد ومن الرسائل ما لا يهش له إلا المؤرخون، الذين لهم معدة كمعدة النعامة تهضم حتى الحجر والحديد...". من أشهر مصنفاته في التاريخ، كتاب "المعسول" (20 جزءا) عن منطقة سوس التاريخية والاجتماعية والسياسية والأدبية والثقافية، وكتاب "سوس العالمة" و"إيليغ قديما وحديثا" و"مراكش في عصرها الذهبي". وكتب في السيرة الذاتية "الإلغيات" و"معتقل الصحراء" و"مواقف مخجلة".. وله في الأدب عناوين مثل "الرسالة الشوقية" و"نضائد الديباج في المراسلات بين المختار والقباج"، و"مترعات الكؤوس في آثار طائفة من أدباء سوس"، كشف فيه مساهمة أدباء سوس في بناء صرح الأدب المغربي الشامخ، وعد المؤلف بمنزلة استدراك على كتاب الأديب عبدالله كنون "النبوغ المغربي في الأدب العربي". أدرك المختار السوسي حجم الغبن الذي لحق أدباء سوس في مصنف عبدالله كنون، فبادر إلى تصحيح الأمر بإبراز مساهمة السوسيين بلبنة ثقيلة في معمار الأدب المغربي، ومن خلاله في صرح الأدب العربي. وكان الرجل على حق في ذلك، فللغة العربية مكانة متميزة لدى أمازيغ سوس، فلا مبالغة في القول إن عدد شعراء الأدب العربي الفصيح في سوس يعادل عدد طلبة المدارس العلمية فيها، إذ من النادر أن تجد طالبا أنهى مراحل تعليمية في هذه المدارس، وليس أديبا أو شاعرا. يتحدث السوسي عن هذه المسألة، في مقدمة كتاب "المعسول"، فيقول "نحن أبناء إيليغ "كناية عن سوس" العجم نذوق حلاوتها "أي العربية"، وندرك طلاوتها، ونستشف آدابها، ونخوض أمواج قوافيها، حتى نعد أنفسنا من أبناء يعرب، وإن لم نكن إلا أبناء أمازيغ". ونقرأ له في "سوس العالمة" عن مكانة الأدب العربي في سوس، "إنك لو أتقنت علم الأولين والآخرين، ثم لم تكن أديبا، فلا تكن لك درجة عند السوسيين، لكن إن أتيتهم بالأدب، وجليت فيه، فإنك ستنال من بينهم مكانة مع ما تيسر لك بعد من العلوم الأخرى، وإن كانت ضئيلة. فإن قطب العلوم عندهم إنما هو الأدب وحده". تعد العربية بالنسبة إلى أمازيغ سوس لغة العلم والقرآن، بينما الأمازيغية لغة تخاطب محلية متداولة بين النخبة والعامة. وتضفي الازدواجية اللغوية على إبداعات أدباء سوس، مسحة وذوقا جماليا فريدا، حيث تمتزج الثقافة المحلية الأصيلة بالثقافة العربية العالمة. يعد الشعر أحد المجالات التي أبان فيها السوسيون عن علو كعبهم، فسكبوا قواعد الفقه والنحو والفرائض والحساب والفتاوى الألغاز في قوالب شعرية، تسهل الفهم والاستيعاب والحفظ والاستذكار. كل هذا دون التفريط في الجوانب الشكلية والجمالية للقصيدة، إلى جانب قوة اللفظ وجزالتها، وشرف المعنى والاهتمام بالمحسنات البديعية. وبلغ النظم على لسان أدباء سوس درجة غير مسبوقة في الأدب العربي، فقد انفرد طلاب المدارس العتيقة بإبداع قصائد فريدة، استطاعوا المزاوجة في كلماتها بين اللسانين العربي والأمازيغي في الشعر. وقد أبدوا المهارة، وقوة الإبداع في التوفيق بين اللغتين في القصيدة الواحدة. وهنا، يكمن سر جمالية هذا النوع من القصائد الشعرية، التي علق عليها الفقيه السوسي أبو زيد عبدالرحمن الجشتيمي بقوله "الحمد لله الذي قد سخرا / لي النظامين ولا مفتخرا، أنظم طورا باللسان العربي / وتارة بالأعجم العربي". وكان أحمد بن محمد بن عبدالسميح الرسموكي الأديب والشاعر السوسي أول من خط قصيدة بلغتين، أواسط القرن الـ17، في رائعته المعروفة باسم "الأرجوزة العربية الأمازيغية" التي تضم 150 بيتا شعريا. تحكي القصيدة قصة مأساوية حدثت للشاعر برفقة خادمه "وينزار"، في رحلة قاما بها في عام قحط وجفاف، جابا خلالها الديار، حتى بلغا قرية اسمها "أورفان"، صدما من جفاء أهلها وبخلهم، ما أغاظ الرسموكي، فحول المأساة إلى طرفة شعرية ساخرة، في وصف أحوال القرية وأهلها. نظم الرسموكي قصيدته باللسان العربي مع بقاء كلمتي "الصدر" (آخر كلمة في الشطر الأول) والعجز (آخر كلمة في البيت) باللغة الأمازيغية، كل هذا دون أن يختل المعنى، ولا حتى الإيقاع الشعري في البيت. يستهل الشاعر قصيدته بالبسملة ثم الصلاة على النبي الكريم، فيقول "بسم الإله في الكلام إيزوار (سبق)/ وهو على عون العبد إيزضار (قادر)/ وهو الذي له توليغتين (المدائح) / وهو المجير عبده من تومريتين (المصائب) وبعده على النبي تازاليت (الصلاة) أعظم بها أجرا ولو تاموليت (مرة واحدة). يبدأ الشاعر بعد ذلك، في سرد مجريات وتفاصيل رحلته، بأسلوب مشوق وساخر فيقول "سافرت دهرا ووصيفي وينزار (اسم الخادم) / في سنة قد قل فيها ءانزار (المطر)/ والقصد في السفر جوب تیمیزار (البلدان)/ والسیر في خیامھا وإیكیدار (الحصون)/ حتى حللت بعد سير أوسان (الأيام)/ في قرية يدعونها بأورفان (اسم القرية) / أول ما رأته فيها تيطي (العين)/ والظن في لومهم أور إيخطي (غير مخطئ)/ قوم عجاف سكنوا في تاكنيت (هضبة)/ خافوا الضيوف كسبوا يات تايديت (كلبة)... أبدع السوسيون في هذا النمط من القصائد، حتى صار مجالا للتنافس والمبارزة بين الشعراء في المنطقة، ليضاف إلى بقية المجالات التي أبدع فيها أدباء سوس غاية الإبداع، ما جعل العلامة المختار السوسي، ينتفض ليس تعصبا بل من باب الإنصاف، للدفاع عنهم، ولفت الانتباه إلى منجزهم الإبداعي، في الشعر والنثر، بلغة الضاد كأنها لغتهم الأم.
مشاركة :