أدب سوس .. حيث تمتزج الأصالة الأمازيغية بالعراقة العربية

  • 11/18/2021
  • 01:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

حلت منتصف الشهر الجاري الذكرى ‏58‏ لوفاة محمد المختار ‏السوسي، الأديب والمؤرخ والعلامة، المنحدر من قرية إيليغ الواقعة في منطقة سوس في جنوب المغرب، وعين بعد ‏الاستقلال في أول حكومة مغربية وزيرا للأوقاف، حتى وافته المنية عن عمر ناهز ‏65‏ عاما، ‏في حادث سير في العاصمة الرباط ‏1963‏.‏ خلف السوسي للخزانة المغربية والعربية ذخائر ثمينة ومصنفات نفيسة، في التاريخ ‏واللغة والنحو والشعر والفقه والتراجم والرحلة والسير والتاريخ، فاق مجموعها ‏70‏ عنوانا، ‏فصلها في نحو ‏120‏ جزءا، بعضها لا يزال مخطوطا مثل المجموعة الأدبية "جوف الفرا" ‏‏(‏400‏ صفحة) التي قال عنها "كنت أجعلها سلة المهملات التي فيها من القصائد ومن الرسائل ‏ما لا يهش له إلا المؤرخون، الذين لهم معدة كمعدة النعامة تهضم حتى الحجر والحديد...".‏ من أشهر مصنفاته في التاريخ، كتاب "المعسول" (‏20‏ جزءا) عن منطقة سوس ‏التاريخية والاجتماعية والسياسية والأدبية والثقافية، وكتاب "سوس العالمة" و"إيليغ قديما ‏وحديثا" و"مراكش في عصرها الذهبي". وكتب في السيرة الذاتية "الإلغيات" و"معتقل ‏الصحراء" و"مواقف مخجلة".. وله في الأدب عناوين مثل "الرسالة الشوقية" و"نضائد ‏الديباج في المراسلات بين المختار والقباج"، و"مترعات الكؤوس في آثار طائفة من أدباء ‏سوس"، كشف فيه مساهمة أدباء سوس في بناء صرح الأدب المغربي الشامخ، وعد المؤلف ‏بمنزلة استدراك على كتاب الأديب عبدالله كنون "النبوغ المغربي في الأدب العربي". ‏ أدرك المختار السوسي حجم الغبن الذي لحق أدباء سوس في مصنف عبدالله كنون، ‏فبادر إلى تصحيح الأمر بإبراز مساهمة السوسيين بلبنة ثقيلة في معمار الأدب المغربي، ‏ومن خلاله في صرح الأدب العربي. وكان الرجل على حق في ذلك، فللغة العربية مكانة متميزة ‏لدى أمازيغ سوس، فلا مبالغة في القول إن عدد شعراء الأدب العربي الفصيح في سوس يعادل ‏عدد طلبة المدارس العلمية فيها، إذ من النادر أن تجد طالبا أنهى مراحل تعليمية في هذه المدارس، ‏وليس أديبا أو شاعرا.‏ يتحدث السوسي عن هذه المسألة، في مقدمة كتاب "المعسول"، فيقول "نحن أبناء إيليغ ‏‏"كناية عن سوس" العجم نذوق حلاوتها "أي العربية"، وندرك طلاوتها، ونستشف آدابها، ‏ونخوض أمواج قوافيها، حتى نعد أنفسنا من أبناء يعرب، وإن لم نكن إلا أبناء أمازيغ". ونقرأ له ‏في "سوس العالمة" عن مكانة الأدب العربي في سوس، "إنك لو أتقنت علم الأولين والآخرين، ثم ‏لم تكن أديبا، فلا تكن لك درجة عند السوسيين، لكن إن أتيتهم بالأدب، وجليت فيه، فإنك ستنال ‏من بينهم مكانة مع ما تيسر لك بعد من العلوم الأخرى، وإن كانت ضئيلة. فإن قطب العلوم ‏عندهم إنما هو الأدب وحده".‏ تعد العربية بالنسبة إلى أمازيغ سوس لغة العلم والقرآن، بينما الأمازيغية لغة تخاطب محلية ‏متداولة بين النخبة والعامة. وتضفي الازدواجية اللغوية على إبداعات أدباء سوس، مسحة وذوقا ‏جماليا فريدا، حيث تمتزج الثقافة المحلية الأصيلة بالثقافة العربية العالمة. يعد الشعر أحد ‏المجالات التي أبان فيها السوسيون عن علو كعبهم، فسكبوا قواعد الفقه والنحو والفرائض ‏والحساب والفتاوى الألغاز في قوالب شعرية، تسهل الفهم والاستيعاب والحفظ والاستذكار. كل ‏هذا دون التفريط في الجوانب الشكلية والجمالية للقصيدة، إلى جانب قوة اللفظ وجزالتها، وشرف ‏المعنى والاهتمام بالمحسنات البديعية.‏ وبلغ النظم على لسان أدباء سوس درجة غير مسبوقة في الأدب العربي، فقد انفرد ‏طلاب المدارس العتيقة بإبداع قصائد فريدة، استطاعوا المزاوجة في كلماتها بين اللسانين ‏العربي والأمازيغي في الشعر. وقد أبدوا المهارة، وقوة الإبداع في التوفيق بين اللغتين في ‏القصيدة الواحدة. وهنا، يكمن سر جمالية هذا النوع من القصائد الشعرية، التي علق عليها الفقيه ‏السوسي أبو زيد عبدالرحمن الجشتيمي بقوله "الحمد لله الذي قد سخرا / لي النظامين ولا ‏مفتخرا، أنظم طورا باللسان العربي / وتارة بالأعجم العربي".‏ وكان أحمد بن محمد بن عبدالسميح الرسموكي الأديب والشاعر السوسي أول من خط ‏قصيدة بلغتين، أواسط القرن الـ‏17، في رائعته المعروفة باسم "الأرجوزة العربية الأمازيغية" ‏التي تضم ‏150‏ بيتا شعريا. تحكي القصيدة قصة مأساوية حدثت للشاعر برفقة خادمه ‏‏"وينزار"، في رحلة قاما بها في عام قحط وجفاف، جابا خلالها الديار، حتى بلغا قرية اسمها ‏‏"أورفان"، صدما من جفاء أهلها وبخلهم، ما أغاظ الرسموكي، فحول المأساة إلى طرفة شعرية ‏ساخرة، في وصف أحوال القرية وأهلها.‏ نظم الرسموكي قصيدته باللسان العربي مع بقاء كلمتي "الصدر" (آخر كلمة في الشطر ‏الأول) والعجز (آخر كلمة في البيت) باللغة الأمازيغية، كل هذا دون أن يختل المعنى، ولا حتى ‏الإيقاع الشعري في البيت. يستهل الشاعر قصيدته بالبسملة ثم الصلاة على النبي الكريم، فيقول ‏‏"بسم الإله في الكلام إيزوار (سبق)/ وهو على عون العبد إيزضار (قادر)/ وهو الذي له ‏توليغتين (المدائح) / وهو المجير عبده من تومريتين (المصائب) وبعده على النبي تازاليت ‏‏(الصلاة) أعظم بها أجرا ولو تاموليت (مرة واحدة).‏ يبدأ الشاعر بعد ذلك، في سرد مجريات وتفاصيل رحلته، بأسلوب مشوق وساخر ‏فيقول "سافرت دهرا ووصيفي وينزار (اسم الخادم) / في سنة قد قل فيها ءانزار (المطر)/ ‏والقصد في السفر جوب تیمیزار (البلدان)/ والسیر في خیامھا وإیكیدار (الحصون)/ حتى حللت ‏بعد سير أوسان (الأيام)/ في قرية يدعونها بأورفان (اسم القرية) / أول ما رأته فيها تيطي ‏‏(العين)/ والظن في لومهم أور إيخطي (غير مخطئ)/ قوم عجاف سكنوا في تاكنيت (هضبة)/ ‏خافوا الضيوف كسبوا يات تايديت (كلبة)...‏ أبدع السوسيون في هذا النمط من القصائد، حتى صار مجالا للتنافس والمبارزة بين ‏الشعراء في المنطقة، ليضاف إلى بقية المجالات التي أبدع فيها أدباء سوس غاية الإبداع، ما جعل ‏العلامة المختار السوسي، ينتفض ليس تعصبا بل من باب الإنصاف، للدفاع عنهم، ولفت الانتباه ‏إلى منجزهم الإبداعي، في الشعر والنثر، بلغة الضاد كأنها لغتهم الأم.‏ ‏ ‏

مشاركة :