الرئيس جو بايدن بربطة عنق حمراء فصل المقال يكمن في المصالح الحيوية الخاصة بكل طرف تلك التي تقف حائلا دون التقدم لإيجاد أرضية مشتركة بهدف المضي في عملية تهدئة حين تتناقض المصالح وتتنافر بشكل يصيب العالم بالهلع. الذي يفرّق العملاقين أعمق من الذي يمكن أن يجمعهما على ساحة واحدة "على الرغم من أننا لسنا في مكان واحد وجها لوجه، إلا أني لا أرى هذا الأمر مقلقا، بل أشعر بسعادة كبيرة لرؤية صديقي القديم". هكذا افتتح الرئيس الصيني شي جين بينغ مداخلته في الحوار الافتراضي مع نظيره الأميركي الرئيس جو بايدن؛ الحوار الذي اتسم بما يمكن أن نطلق عليه “التهدئة” التي قد تؤدي إلى خطوة خجولة من ودّية ممكنة بين الطرفين. فعبارة “صديقي القديم” التي أطلقها شي على بايدن تعني الكثير في اللغة الدبلوماسية للصين، كما أخبرني زميلي مراسل مجموعة شنغهاي للإعلام في المكتب الصحافي للبيت الأبيض الذي يجيد اللغة الصينية. فبينما ظهر الرئيس شي على الشاشة بربطة عنق زرقاء برمزية تشير إلى اللون الديمقراطي الأميركي، كان الرئيس بايدن يرتدي بالمقابل ربطة عنق حمراء إشارة، على ما يبدو، إلى لون الصين المفضّل سياسيا. ناقش الزعيمان النقيضان، وكل من طرفه ومن مرجعيته السياسية، طبيعة العلاقة المعقّدة التي يدور بلداهما في فلكها، مشدّدين على أهمية التوصّل إلى إدارة المنافسة بين العملاقين الصيني والأميركي بمسؤولية كاملة وتوازن منطقي تجنبا لأي مواجهات محتملة. أشار الرئيس بايدن إلى أن الولايات المتحدة ستستمر في الدفاع عن مصالحها وقيمها، وستقوم بالتعاون مع شركائها وحلفائها بمواجهة تحديات العصر كافة، وكذا إيجاد أفضل السبل التي تمكنها من أن تقدّم للعالم في القرن الحادي والعشرين نموذجا دوليا حرا، منفتحا، وعادلا، يُحتذى به. وأثار الرئيس بايدن بشفافية تامة مخاوفه لجهة ممارسات جمهورية الصين الشعبية المقلقة في إقليم سنجان ذي الأغلبية المسلمة وفي التبت وهونغ كونغ، وذلك في جملة انتهاكات لحقوق الإنسان، وعلى نطاق واسع. كما كان واضحا بشأن الحاجة إلى حماية العمال والصناعات الأميركية من الممارسات التجارية والاقتصادية غير العادلة للصين ووجوب منع التعديات على الملكية الفكرية الأميركية. وأكّد بايدن أهمية الحفاظ على مساحة المحيطين الهندي والهادئ الجغرافية كمنطقة حرة وآمنة ومفتوحة، موضحا لنظيره الصيني عزم الولايات المتحدة المتواصل على الوفاء بالتزاماتها لحماية الأمن الملاحي في هذا المجال الحيوي من العالم. الرئيس شي الذي كان يظهر على الشاشة جالسا أمام خلفية صينية تقليدية مع فنجان شاي صيني إلى جانبه الأيمن وفنجان قهوة على جانبه الأيسر، تحدّث لمدة لا تزيد على أربع دقائق بما فيها فترة الترجمة الفورية، وجاءت معظم ملاحظاته بلهجة هادئة تدعو إلى زيادة التواصل والتعاون بين البلدين بالرغم من التحديات التي تواجههما. أشار الرئيس الصيني إلى ضرورة أن تركّز كل من الصين والولايات المتحدة على شؤونهما الداخلية أولا، وفي الوقت نفسه يتعيّن أن تتقاسما المسؤوليات الدولية الملقاة على عاتق البلدين كقوتين عظميين وعضوين في مجلس الأمن، والعمل معا لدفع قضايا السلام والتنمية في العالم. ونوّه شي إلى أن العلاقة الصينية – الأميركية السليمة هي أمر جوهري لتحقيق التوازن بين الإدارتين في كلا البلدين، ولتمكين وحماية بيئة دولية سلمية ومستقرة، بما فيه الاستجابة العالية للتحديات العالمية، كأزمة تغير المناخ، وتحديات وباء كوفيد – 19. وتوجّه أخيرا إلى الرئيس بايدن بالقول “على الصين والولايات المتحدة احترام بعضهما البعض، والتعايش في سلام. إنني على استعداد للعمل معكم للتوصل إلى توافق، واتخاذ خطوات فعالة بشأن دفع العلاقات الصينية – الأميركية إيجابا وإلى الأمام، وتعزيز مصالح شعبينا، وتلبية ما يتوقّعه المجتمع الدولي من كلينا”. هذا ما كان من أجواء اللقاء بين الزعيمين اللدودين بايدن وشي. أما عن الدلائل والإشارات التي بثّها اللقاء، وفي قراءة سريعة للهجة التي سار على متنها الرئيسان، فإن الانطباع الغالب هو رغبة الطرفين الجلية، على الأقل في الوقت الحالي، في النزوع إلى التهدئة ثم التهدئة ثم التهدئة. مردّ هذا التوجه يرجع إلى أن معظم القضايا المعلّقة بين البلدين هي على درجة من التعقيد بما لا يمكن تجاوزه، أو حتى تلطيف أجوائه في أضعف الأحوال، من خلال رسائل مشفّرة لألوان ربطتي العنق حول رقبة الزعيمين، أو بمناداة الخصم الأميركي بصفة “الصديق القديم”. إنها ببساطة لغة دبلوماسية لا يتقنها الخصمان إلا حين يقتربان بشكل خطير من الحافات، بينما يدركان تماما حجم كل واحد منهما على حدة، ومدى الضرر الذي سيحدثه صدام محتمل بينهما على مستوى شعبيهما والعالم في آن. إلا أنه من المفيد أن تتطور هذه اللهجة بين الطرفين إلى حالة متّصلة، ولاسيما في هذه الفترة الأميركية التي يسوسها الديمقراطيون على الأقل لمدة أربع سنوات من إدارة الرئيس بايدن؛ فهم محترفون أشداء للدبلوماسية البعيدة المدى، ويعتقدون بصورة راسخة أن ما تحققه لغة الحوار تعجز بالتأكيد عن تحقيقه لغة الحرب بكل أشكالها، عسكرية كانت أم اقتصادية أم ثقافية أم سايبيرية. فصل المقال يكمن في المصالح الحيوية الخاصة بكل طرف، تلك التي تقف حائلا دون التقدّم لإيجاد أرضية مشتركة بين بكين وواشنطن بهدف المضي في عملية تهدئة إسعافية حين تتناقض المصالح وتتنافر بشكل يصيب العالم بالهلع. وأكثر ما يُخشى أن لغة التعاطف التي بدت في هذا اللقاء “الافتراضي” ستبقى في عالم الافتراض حصرا، ولن يكون بإمكانها أن تتقدّم لتصير واقعا معيشا يحكم العلاقة بين البلدين. الذي يفرّق العملاقين في هذه الحالة أعمق من الذي يمكن أن يجمعهما على ساحة واحدة، بل قد يضيق بهما المكان مهما عظُم نظرا للحجم الاقتصادي والسياسي والعسكري لكليهما؛ الحجم الذي سيحكم ميزان القوة حين تريد كل من الصين والولايات المتحدة الاحتفاظ بكفّته راجحة لطرفها. مرح البقاعي كاتبة سورية أميركية
مشاركة :