التنويم المغناطيسي بين الحقائق والأكاذيب

  • 11/8/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

شاهدنا من خلال الأفلام السينمائية القديمة ومن خلال قصص المغامرات حالات سيطرة أحد الأشخاص على آخر بعد تنويمه مغناطيسياً، بالنظر المطول في عينيه مع تحريك أصابعه حركات دائرية، بحيث ينفذ الخاضع للنوم كل تعليمات من قام بتنويمه، حتى إذا تضمنت أوامر غير منطقية أو تتضمن ميولاً عدوانية، بينما قدمت وسائل الإعلام نماذج للعلاج باستخدام التنويم المغناطيسي نجحت في إنقاذ الآلاف من الموت بأمراض خطرة. والواقع العلمي لا يؤيد أياً من الحالات السابقة، لأن السيطرة على الأشخاص ضد رغباتهم من بعد ليس إلا من باب الخيال العلمي السينمائي فقط، كما أن الشفاء من المرض العضال لابد أن يحدث بناء على أسباب منطقية وعلمية، والتنويم المغناطيسي يقوم على فكرة لا علاقة لها بهذا ولا بذاك، فلا نظرات العيون ولا حركات الأصابع يمكن لها تنويم شخص ما أو إخضاعه للسيطرة.. الفكرة تعتمد على الإيحاء. ولوضع تعريف عام لذلك النوع من الحالات يمكن القول إن التنويم المغناطيسي هو استدراج إيحائي للعقل أو الشعور البشري من منطقة الوعي الكامل إلى منطقة الاسترخاء التام والاستسلام الكلي، بحيث يسهل على الذهن تقبل الأفكار والمفاهيم المطروحة عليه وهو في هذه الحالة، وهي ليست حالة خاصة أو استثنائية، بل طبيعية تماما مثل حالة الخوف أو الغضب أو الفرح أو أية حالة شعورية أخرى. والغريب في الأمر أننا نتعامل يومياً مع بعض الحالات ولكن لا نهتم بمعرفة تسمية لها، فإذا سألت زميلك في العمل عن وقت الانصراف وكان مستغرقاً في مراقبة جهاز الكمبيوتر فلن يجيبك فوراً، وربما احتاج الأمر إلى مناداته باسمه بصوت أعلى حتى يخرج عن استغراقه ويجيبك عن السؤال السهل، كذلك إذا خرجت لنزهة بصحبة أبنائك، وسرحت خلال جلوسك في الحديقة تتذكر أيام طفولتك، فلن تنتبه لنداء ابنك عندما يريدك مشاركته اللعب، وهكذا. وفي بعض الأحيان تعرض زوجتك عليك اقتراحات قبل خروجك إلى عملك صباحاً، تتضمن شراء بعض قطع الأثاث الجديدة ولعب للأطفال، فتجيب بأن الوقت ليس مناسباً لذلك، وتطلب منها مثلاً تأجيل الأمر إلى بداية الشهر المقبل، تعود من العمل في المساء مجهداً، ولكنك لا تريد تجاهل الاستماع إلى زوجتك التي تبدأ في سرد أحداث اليوم كاملاً، وتشكو لك شغب الأبناء ومشاكساتهم، وتعرض من جديد نواقص المنزل التي تريد شراءها، إلا أنك من فرط الإجهاد تستمع مكرهاً، فإذا اقترحت عليك قائمة مشتريات لن تناقشها، ستوافق على الفور، وتتبنى وجهة نظرها في كل شيء، والسبب أنك في حالة استعداد تام لتقبل كل الأفكار الجديدة بلا جدل أو مناقشة، فأنت بالفعل منوم مغناطيسياً وجاهز لتنفيذ كل ما يطلب منك مدفوعاً بضغط من العقل الباطن. ولكن كيف يمكن لك تغير رأيك في أقل من 24 ساعة إلى النقيض؟ يقول علماء النفس إن التنويم الإيحائي يعتمد على التوغل في العقل الباطن واستبدال بعض المفاهيم والأفكار بأخرى، ولا يمكن إجراء ذلك التعديل خلال زمن النشاط العقلي الطبيعي، لأن العقل الواعي يفند المقترحات ويدحضها بالحجة والبرهان، وبالتالي لا مجال لتعديل الأفكار إلا عند استرخاء الوعي أو الشعور وتراخيه عن القيام بدوره كحارس للأفكار الوافدة إلى المخ، في ذلك الوقت فقط يمكن استبدال فكرة بأخرى، وهو الأمر الذي حدا بالعلماء لاستخدام التنويم المغناطيسي في العلاج، ولكن هل ينام الشخص بالفعل؟ وهل للمغناطيس دور في ذلك؟ واقعياً لا علاقة تربط الموضوع الذي نناقشه هنا بالنوم ولا بالمغناطيس، وربما تكون التسمية الأدق هي السيطرة الإيحائية أو الاسترخاء العصبي الوظيفي، واستخدم العلماء هذه الطريقة في علاج المرضى النفسيين عن طريق استخراج ما بداخل عقولهم الباطنة من مفاهيم ووضع أخرى مكانها، ما يؤدي إلى تغيرات واضحة في سلوكهم، خاصة مع حالة التركيز التي تطغى على الذهن، حيث يكون العقل الباطن في حالة استعداد لتلقي الأفكار الجديدة، ما يؤدي إلى استقرارها في أعماقه، ومن أبرز استخداماته علاج التوتر العصبي والإدمان والصداع النصفي، وبعض الأمراض النفسية كالاكتئاب والإحباط وعيوب النطق مثل التأتأة، وكذلك في علاج الأمراض الجسمانية مثل الروماتيزم المفصلي والتهابات الأعصاب الطرفية والشلل النصفي الناتج عن الجلطة الدماغية العميقة، وآلام الأسنان وتخفيف أوجاع السرطان، وسجل المستشفى الجامعي بباريس مؤخراً أول جراحة تستخدم الإيحاء بدلاً من التخدير لإزالة ورم من حنجرة مطربة، ونجحت الجراحة نتيجة سيطرة الطبيبة المغربية أسماء خالد الإيحائية على المريضة. ومر التنويم الإيحائي بمراحل كثيرة ومعقدة على أيدي مجموعة من العلماء من أقطار عدة، وتنوعت التطورات التي شهدها ذلك العلم بين نظريات صحيحة ومحاولات خبيثة لاستخدامه في أعمال شريرة، إلا أن اعتراف الجمعية الطبية الأمريكية بالتنويم الإيحائي في عام 1958 أعطاه شرعية العلم المفيد وأدى لازدياد الطلاب على دراسته. ولكي نفهم كيفية حدوث النوم الإيحائي لابد من توضيح عدة نقاط، أولاها أن التنويم الناجح يعتمد على إرادة الشخص الخاضع للتنويم لا من يقوم به، فنحن نمر بحالات من الاستيقاظ أو النوم أو الاسترخاء الشديد، هذه الحالات المختلفة تحدث نتيجة إرسال المخ موجات كهربائية تحدد مستوى اليقظة التي تنقسم علمياً إلى 3 مستويات، أولها بيتا أي اليقظة التامة، ويرسل المخ موجات مقدارها 14 موجة/ثانية، والثانية ألفا وهي ما قبل النوم أو آخر النوم أو حالة أحلام اليقظة، وفيها يكون الشخص واعياً ولكن في حالة استرخاء وفيها يرسل المخ 8 موجة/ثانية، والحالة الثالثة تسمى ثيتا ودلتا وتطلق على الاستغراق التام في النوم، والتنويم الإيحائي يعني توصيل الشخص إلى مرحلة ألفا التي تسمح بالتواصل بين العقل الباطن ومنطقة الشعور، ويتطلب ذلك الجلوس في مكان مريح بعيداً عن أي أصوات يمكن أن تشتت التركيز، فلا هاتف محمول ولا مواعيد للعمل، ثم التركيز البصري على هدف واحد لا تحيد عنه العين، كمروحة السقف مثلا، مع تنشيط التخيل الإيجابي، كأن يتصور الشخص أنه جالس في قارب نزهة وحده في البحر مثلاً، ثم استبدال الأفكار القديمة بأخرى جديدة بواسطة المنوم أو المعالج. وطبقاً لأحد أطباء الأسنان الألمان فإن العلاج بالتنويم الإيحائي لا يمكن استخدامه مع كل الناس، ولا يجدي نفعاً مع كل المرضى، حيث يقول جواتشيم لويديكي، حسب وكالة الأنباء الألمانية، رئيس رابطة لعلاج الأسنان بولاية ساكسوني الألمانية ما يقرب من 10 % من الأشخاص لا يستطيعون الوقوع تحت سيطرة الطبيب، وأضاف: هؤلاء من بينهم أشخاص ببساطة ليست لديهم الرغبة في الوقوع تحت سيطرة الطبيب أو لديهم قدرات ضعيفة على التخيل، كما يستحيل استخدام هذه الطريقة بوجه عام في علاج شخص ما ضد إرادته. وعند البحث تاريخياً عن التنويم الإيحائي نجد المصريين القدماء أول من استخدمه في العلاج، ثم اليونانيين، وذكرت مراجع حديثة أن الهنود برعوا في تسخير التنويم الإيحائي لعلاج الأمراض المزمنة. وحتى الآن لم يخرج أحد العلماء ليشرح للعالم كيفية تخفيف التنويم الإيحائي للألم، ولكن من الأبحاث المهمة في المجال ما قام به د. رينڤيل الأستاذ في جامعة مونتريال في عام 1997 حيث استطاع تحديد المواقع الدماغية التي تقوم بتخفيف الألم أثناء التنويم المغناطيسي، على اعتبار أن ذلك الألم مستقل عن النواحي الحسية، ونجح في ذلك باستخدام تقنية التصوير المسماة PET، فتبين له أن التنويم يقلل من نشاط القشرة الدماغية الأمامية والتي تعد مسرح الألم، ولكنه لا يؤثر في نشاط القشرة الحسية الجسدية التي تُجرى فيها معالجة الإحساس بالألم. ويتبنى بعض العلماء فرضية أن التأثير المُفْقِدَ للشعور بالألم في التنويم يحدث في المراكز الدماغية العليا وليس في المراكز المعنية بتسجيل الإحساس بالألم، ويفسر ذلك حقيقة كون معظم الاستجابات الذاتية التي ترافق الألم بشكل روتيني (مثل ازدياد عدد ضربات القلب) لا تتأثر بإيحاءات المنوَّم مغناطيسياً بدليل عدم إحساسه بالألم. وبصورة عامة يمكن تلخيص ما سبق بالقول إن التنويم الإيحائي طريقة للدخول إلى محتويات العقل الباطن وتغييرها لصالح المريض بهدف تخفيف ألمه أو شفاء مرضه، ويمكن لشخص مدرب جيداً تنفيذها، ويلزم لنجاحها تعاون تام من جانب الشخص الخاضع للتنويم، بحيث يستجيب باختياره لتعليمات القائم على التنويم، ولا يمكن تغيير محتويات العقل الباطن إلا من خلال استرخاء تام للجسم يستغرق ما بين 10 إلى 30 دقيقة، يصل خلالها إلى مرحلة ما قبل النوم التام، وهي المرحلة التي تساعد على اختراق مفاهيم اللاوعي وتغييرها.

مشاركة :