اتفاق مفاجئ بين عبد الفتاح البرهان وعبد الله حمدوك يعود من خلاله هذا الأخير إلى منصبه في رئاسة الوزراء. لكن محللين يرون أن الاتفاق هو انتصار للمكون العسكري، بينما يفقد حمدوك دعم المكونات المدنية التي تهدد بالتصعيد. هل انتحر حمدوك سياسياً باتفاقه مع البرهان؟ في نجاح مرحلي للاحتجاجات الواسعة على الانقلاب، قرّر قائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان إعادة عبد الله الحمدوك، رئيس الوزراء، إلى منصبه، بعد مرور أقل من شهر على عزله ووضعه تحت الإقامة الجبرية، ضمن سلسلة قرارات أخرى في حينه من بينها فرض حالة الطوارئ وحلّ مجلسي السيادة والوزراء، واستئثار الجيش بالحكم. عودة حمدوك أتت عقب اتفاق سياسي وقعه مع البرهان ، ومن خلاله تم الالتزام بعدم تدخل مجلس السيادة الذي يرأسه البرهان في العمل التنفيذي، والتأكيد على احترام الوثيقة الدستورية، وضمان نهاية الفترة الانتقالية في موعدها المحدد، وإدارة هذه الفترة بموجب إعلان سياسي يحدد الشراكة بين مختلف القوى المدنية والعسكرية والاجتماعية والدينية. وممّا تم الاتفاق عليه حسب النص الذي نشرته وسائل إعلام محلية ودولية، تشكيل المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية وتعيين مسؤولين على رأس الجهاز القضائي، بما يتيح الإسراع في استكمال جميع مؤسسات الحكم الانتقالي، فضلا عن إعادة هيكلة لجنة تفكيك نظام الرئيس المخلوع ومراجعة عملها، والتحقيق في الأحداث التي جرت أثناء المظاهرات، وتقديم الجناة للمحاكمة. اتفاق ملغوم؟ في البند الثالث من الاتفاق، يعتبر البرهان وحمدوك أن " الشراكة الانتقالية القائمة بين المدنيين والعسكريين هي الضامن والسبيل لاستقرار وأمن السودان"، ثم يضيفان "الالتزام التام بتكوين حكومة مدنية من الكفاءات الوطنية المستقلة (تكنوقراط)"، ولم تتم الإشارة إلى أيّ دور للقوى السياسية والشعبية التي ساهمت في اقتراح أسماء أول حكومة بعد سقوط نظام عمر البشير، وتحديدا قوى إعلان الحرية والتغيير. ويشير محمد الأسباط، المحلل السياسي السوداني المقيم في فرنسا، لـ DW عربية، إلى أن الاتفاق ليس كما يُرّوج له على أساس أنه بين المكون المدني والمكون العسكري، بل هو "اتفاق بين رئيس الوزراء وقائد الانقلاب"، مشيراً إلى أن الحديث عن تشكيل حكومة لا معنى له، لأن "المعلوم أن الحكومة تحتاج إلى قوى سياسية للتشاور معها ولدعمها، وهو الأمر المنعدم في هذه الحالة". وكان تجمع المهنيين السودانيين، أكبر قوى إعلان الحرية والتغيير، قد دعا بعد الانقلاب، إلى اختيار رئيس جديد لمجلس الوزراء من قبل القوى الموقعة على الميثاق السياسي الذي أصدرته هذه القوى لاستكمال الثورة، وأن هذا الرئيس الجديد هو المفوض باختيار 20 شخصية كحد أقصى من الكفاءات المهنية والوطنية ممن يتفقون مع "ميثاق الثورة". كما رفض حزب الأمة القومي، أحد أطراف قوى الحرية والتغيير، الاتفاق ووصفه بأنه "لا يخاطب جذور الأزمة التي أنتجها الانقلاب العسكري وتداعياتها، ورفضته أحزاب أخرى كحزب المؤتمر السوداني والحزب الشيوعي. وتتخوف الأحزاب السودانية من أن يكون هذا الاتفاق مجرد محاولة للالتفاف من الطرف العسكري لتنفيذ خطط الانقلاب. ويضيف الأسباط في حديثه مع DW عربية بأن هذا الاتفاق هو خارج السياق الدستوري رغم محاولة الاستنجاد بالدستور، وذلك لكون الوثيقة الدستورية وُقعت مع قبل قوى الحرية والتغيير، وهي الجهة الغائبة تماما في هذا الاتفاق الأخير. وتسري شكوك كبيرة حول نجاح هذا الاتفاق، فعلاوة على رفض القوى السياسية الرئيسية له، تستمر الدعوات للاحتجاج في الشارع، وقد أثبت المتظاهرون خلال الأسابيع الماضية قدرتهم على الصمود رغم آلة القمع التي تعرضوا لها . لكن عددا من القوى الإقليمية والدولية عبرت عن ارتياح نسبي لهذا الاتفاق، إذ قالت الخارجية الألمانية إن الاتفاق خطوة أولى إيجابية في الاتجاه الصحيح ، لكنها قالت إنها تقيّم الموضوع بتفاؤل حذر، كذلك رحبت فرنسا بعودة حمدوك، ودعت إلى الإسراع بتشكيل حكومة مدنية، كما رحبت الولايات المتحدة بالاتفاق، لكنها كررت الدعوة إلى تفادي استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين. تستمر الدعوات للاحتجاج في الشارع وأثبت المتظاهرون خلال الأسابيع الماضية قدرتهم على الصمود هل سقط حمدوك في شرك الجيش؟ تجمع المهنيين السودانيين، عبّر بقوة عن رفضه للاتفاق بين حمدوك والبرهان، ووصفه بـ"اتفاق الخيانة"، وأنه "محاولة باطلة لشرعنة الانقلاب الأخير وسلطة المجلس العسكري وانتحار سياسي للدكتور عبد الله حمدوك"، متحدثا في بيان له عن أن "هذا الاتفاق الغادر هو تلبية لأهداف الانقلابيين المعلنة في إعادة تمكين الفلول وتأبيد سلطة لجنة البشير الأمنية". ويشير التجمع هنا بشكل غير مباشر إلى قوات الدعم السريع التي تمت المطالبة بإدماجها في القوات النظامية، وتلاحق هذه القوات اتهامات بانتهاكات لحقوق الإنسان، وتملك تأثيرا كبيرا في السودان، فقائدها الفريق أول محمد حمدان دقلو، هو نائب رئيس مجلس السيادة، وهو على الأقل الرجل الثاني من حيث النفوذ في السودان. ويقول الباحث في مركز ريفت فالي إنستيتيوت، مجدي الجيزولي، لفرانس "رئيس الوزراء وحلفاؤه استسلموا تماما" أمام الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ويتابع لفرانس بريس أن هذه الخطوة "هي ما كان الجيش يريده منذ البداية وأنها تضفي على الانقلاب وضعا طبيعيا فيصبح الأمر هو الواقع الجديد". وعانى حمدوك في آخر أيام حكومته من انشقاق في الائتلاف الحاكم بعد خروج تيار يضم أحزابا وحركات مسلحة، أعلنت عن "ميثاق التوافق الوطني". وتم النظر إلى هذا التيار المناوئ لقوى الحرية والتغيير على أنه مقرب ومسنود من الجيش، لكن أركو مناوي، رئيس حركة تحرير السودان، عاد للتنديد بالانقلاب ودعا إلى توحيد قوى الحرية والتغيير، ما اعتبر دفعةً لحمدوك في مواجهة البرهان. كما يتوفر الجيش على دعم من مجموعة من المكونات في السودان، كما عليه الحال مع مجلس نظارات قبيلة البجا في شرق البلاد الذي دعا بشكل واضح إلى تسلم الجيش للحكم، وكان هذا المجلس قد أغلق موانئ بحرية ومطارا وطريقا رئيسيا احتجاجا على توقيع حمدود لاتفاق سلام "تاريخي" في مدينة جوبا مع حركات مسلحة. ويشير الأسباط إلى أنه في الوقت الذي يمكن القول إن البرهان كان ملزما بهذا المخرج بسبب الاحتجاجات ضده، فإن لا أحد يستطيع حاليا تفسير إقدام حمدوك على هذه الخطوة ولا أحد يدري نوعية الضغوط التي تعرض لها، مؤكدا أن توقيعه للاتفاق بهذه السرعة يؤكد ظاهريا استغلال "قضايا غير نبيلة" من المكون العسكري ضده. غير أن حمدوك دافع عن هذا الاتفاق، واعتبر أن سبب عودته هي "المحافظة على المكاسب الاقتصادية والانفتاح الاقتصادي على العالم"، ودافع في تصريحات لرويترز، عن خطة تعيين حكومة تكنوقراط بالقول إنها "ستساعد في تحسين الاقتصاد السوداني الذي يعاني من أزمة طويلة الأمد، وكذلك في الحفاظ على السلام وتنفيذ اتفاق جوبا". وأكثر ما يتهدد حمدوك هو فقدان الدعم الشعبي والسياسي له، ويرى الأسباط أنه لن يكون قادرا على المناورة ضد المكون العسكري خلال الفترة الانتقالية، ولن يجد من يدعمه لتحقيق أيّ توازن مفترض، فيما يقول الجيزولي لفرانس بريس إن حمدوك "سيكون ما يريد له الجيش أن يكونه، لأنه أيا كانت العقبات التي سيواجهها، لن يستطيع الاعتماد على قاعدة شعبية أو رافعة سياسية كما كانت الحال من قبل".
مشاركة :