يبدو أن واشنطن قد حددت موعد الحرب الروسية الأوكرانية، ليصبح السؤال المتبقي فقط هو نوع الاستفزاز الضروري لإشعالها. في الآونة الأخيرة، ضجت وسائل الإعلام في كل مكان بالتصريحات الأمريكية بشأن استعداد روسيا لمهاجمة أوكرانيا. حتى أن الأمريكيين عرضوا صوراً فضائية لحشود عسكرية روسية تقع على الحدود، إلا أنها كانت الحدود لا مع أوكرانيا، وإنما مع بيلاروس، حليف روسيا، والتي تعرّضت مؤخراً لتهديد عسكري من جارتها بولندا، التي نشرت 20% من قواتها المسلحة على الحدود البيلاروسية، فيما قيل إنه لمكافحة المهاجرين. بطبيعة الحال، أنكرت كل من روسيا وأوكرانيا أي حشد للقوات الروسية على الحدود المشتركة، إلا أنه، وبعد تعليمات من واشنطن، غيّرت كييف موقفها. كل هذه التصريحات، بلا شك، هي إعداد للرأي العام الغربي لبدء الصراع، الذي خططت له واشنطن، في أوكرانيا، والذي تلقي فيه باللوم على روسيا مقدماً. للتذكرة، فقد حشدت أوكرانيا قواتها فعلياً حول إقليم الدونباس بداية هذا العام، إلا أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حذّر من العواقب الوخيمة للغاية لذلك الهجوم الأوكراني على تلك المنطقة، وتأثيره على مصير الدولة الأوكرانية. تراجع الرئيس بايدن، وعقد لقاءً مع بوتين، وسحبت أوكرانيا قواتها. ومع ذلك، فالتحدي الرئيس الذي يواجه الولايات المتحدة الأمريكية لم يختف، وفي غضون سنوات قليلة، ستختزل الصين وروسيا أخيراً دور الولايات المتحدة إلى دور القوة الإقليمية، وهو ما سيحرم الدولار من مكانته كعملة تجارية عالمية، وعملة احتياطية، وسيتلو ذلك انهيار الاقتصاد الأمريكي. وتظل فرصة الولايات المتحدة الوحيدة للحفاظ على الوضع الراهن هي الحرب، لكن واشنطن لم تتخذ، لفترة طويلة، قرار السيناريو الخاص بها، بما في لك اختيار ضد من ستبدأ الحركة والاشتباك. في القمة الهاتفية الأخيرة، بين شي جين بينغ وجو بايدن، لجأ الأخير إلى جميع السبل لنزع فتيل التوترات في العلاقات الصينية الأمريكية. في الوقت نفسه، اندلعت ثلاث صراعات على حدود روسيا في وقت واحد تقريباً: حول بيلاروس، وتجدد القتال بين أذربيجان والحليف الروسي أرمينيا، كما تفاقم الوضع في الدونباس، حيث تكثّف أوكرانيا من أعمالها العدائية تدريجياً. الآن، لا يساورني شك في أن الولايات المتحدة الأمريكية قد اختارت روسيا لتكون الضحية الأولى للمواجهة العسكرية، بيد أن واشنطن، في الوقت نفسه، تودّ أن تقتصر تلك المواجهة على حرب بالوكالة، باستخدام القوى الأوروبية عديمة القيمة "علف المدافع" بمشاركة الاتحاد الأوروبي، وهو ما سيقضي كذلك على إمكانية بقاء أوروبا على الحياد في الصراع الأمريكي الصيني. في غضون ذلك، تتطور أزمة سياسية أخرى حادة في أوكرانيا، بينما تستعد البلاد مرة أخرى للإطاحة برئيس آخر. وعلى عكس سلفه، بيوتر بوروشينكو، لم يكن الرئيس الأوكراني الحالي، فلاديمير زيلينسكي، نفسه من طبقة الأوليغارشية المسيطرة، بل كان ممثلاً كوميدياً، لعب دور رئيس غير قابل للفساد في إحدى المسلسلات، والذي نجح بأعجوبة، خلال أحداث المسلسل، من حل جميع مشكلات أوكرانيا. لكن الحياة الواقعية في أوكرانيا، طوال السنوات التي تلت الحصول على الاستقلال، وإعادة التوجه نحو الغرب، استمرت في التدهور، وتمكنت جميع القوى السياسية من تشويه سمعتها تماماً. في ظل هذه الظروف، نجح الأوليغارشي كولومويسكي في تقديم نموذج الرئيس غير القابل للفساد، الذي لعب دوره في المسلسل فلاديمير زيلينسكي، لكن الشعب الأوكراني كان ذكياً بما يكفي لدعم هذه النكتة والتصويت له. علاوة على ذلك، فإن زيلينسكي نفسه يأتي من منطقة ناطقة بالروسية، ووعد بإنهاء الحرب في الدونباس، حيث كان المواطنون الأوكرانيون يأملون في إنهاء قمع السكان الناطقين بالروسية في أوكرانيا، وتطبيع العلاقات مع روسيا. إلا أن الواقع كان عكس ذلك. فبعيداً عن الأدوار الكوميدية التي كان زيلينسكي يؤديها على الشاشة، ونظراً لغياب أي خبرة في عمل أي شيء آخر في الحياة، أصبح الكوميديان زيلينسكي كارثة إدارية لا تقل كارثية عن الإخوان المسلمين في مصر. على سبيل المثال لا الحصر، لم تخزّن أوكرانيا الغاز في الصيف، على الرغم من امتلاكها لأكبر صهاريج تخزين الغاز في أوروبا، وتواجه الآن نقصاً في الغاز. في الوقت نفسه، رفضت أوكرانيا شراء الفحم من جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، ولم تحتفظ بأي احتياطيات، ويتم الآن إغلاق محطات الطاقة التي تعمل بالفحم في البلاد الواحدة تلو الأخرى نتيجة لذلك. لهذا ينتظر أوكرانيا فصل شتاء بارد، ستواجه فيه أزمة طاقة هائلة، على الرغم من أنها قد اتيحت لها كل الفرص لتفاديها. سياسياً، وبعد الانتخابات، نكث زيلينسكي فوراً بجميع وعوده بوقف الحرب، ودخل في تحالف مع النازيين الجدد الأوكرانيين، حيث أنه السبيل الوحيد لأي رئيس أوكراني جديد، عقب انقلاب عام 2014، أن يتجنب الشغب وتلقي الدعم الاقتصادي من الغرب. ثم دخل زيلينسكي فجأة في مواجهة مع داعمه الأوليغارشي كولومويسكي، ليقفز من حصانه إلى حصان الأوليغارشي الآخر، أغنى رجل في أوكرانيا، رينات أحمدوف. إلا أنه اختلف بعد فترة مع أحمدوف، قبل أن يتمكن من مصادرة ممتلكات رجل الأعمال الثالث الكبير، مديفيدتشوك، كما بدأـ إجراءات قانونية ضد أوليغارشي آخر، هو الرئيس الأوكراني السابق، بيوتر بوروشينكو. لذلك هوت شعبية الرئيس الأوكراني الحالي إلى 23%، واختلف مع بقية النخب والأوليغارشية الأوكرانية. بحلول الخريف الماضي، لم يتبق لزيلينسكي سوى حليفان، هما الولايات المتحدة الأمريكية والنازيون الأوكرانيون الجدد. ولكن، بالنسبة للولايات المتحدة، فلا يهم من يجلس على كرسي الحكم في أوكرانيا بشكل عام، حيث يجب على أي سياسي أوكراني طاعة واشنطن، وإلا سوف يتم تصفيته جسدياً و/أو سياسياً على أيدي النازيين الجدد. إلا أن هذا لم يكن كل شيء، حيث كانت هناك فضيحة أخرى تقوض دعم النازيين الجدد و"حزب الحرب" لزيلينسكي. ففي العام الماضي، طوّرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وأجهزة الاستخبارات الأوكرانية عملية لاستدراج المرتزقة الروس من شركة "فاغنر" الروسية العسكرية الخاصة بالخارج، وكان من المزمع إجبار الطائرة التي تحمل على متنها 33 منهم على أراضي أوكرانيا، واعتقالهم لاحقاً لمشاركتهم في الأعمال العدائية في الدونباس. ووفقاً للخطة، كان من المفترض أن يطير هؤلاء عبر مينسك وإسطنبول إلى فنزويلا لحراسة منشآت نفطية، لكنهم تأخروا أثناء الترانزيت في عاصمة بيلاروس. فتفتق ذهن فلاديمير زيلينسكي عن استغلال هذه العملية الخاصة لدق إسفين في العلاقات الروسية البيلاروسية، وأخبر الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، بأن هؤلاء المواطنون الروس إنما جاءوا إلى بيلاروس للإطاحة به، فاعتقلوا في مينسك، واتهمت بيلاروس موسكو بالإعداد لانقلاب داخل بيلاروس، إلا أن أياماً قليلة كانت كافية لتوضيح كل شيء، فانتهت القصة بإطلاق المواطنين الروس المعتقلين، ثم بمحاولة اغتيال فاشلة للرئيس لوكاشينكو من قبل المعارضة البيلاروسية المدعومة من الغرب، ثم الآن بأزمة على الحدود البيلاروسية البولندية. على أي حال، اعتبرت تلك العملية عملية فاشلة تقع مسؤوليتها على عاتق الرئيس زيلينسكي، الذي أبلغ رئيس بيلاروس عن المرتزقة. اليوم، تصل تلك الفضيحة ذروتها، ويبدأ السيرك الكبير، وفقاً للتقاليد الأوكرانية المعروفة، بينما يبحث الجميع الآن عن عميل روسي في محيط الرئيس زيلينسكي، كي يصبح شماعة الفشل، التي يعلق عليها زيلينسكي فشله... لقد بدأت الاحتجاجات ضد زيلينسكي بأي حال من الأحوال، فلم يعد يحظى بأي دعم داخل المجتمع الأوكراني، ونجح ببراعة في تحويل معظم شركائه السابقين إلى أعداء، ليصبح الكرسي تحت زيلينسكي آيلاً للسقوط. في ظل هذه الظروف، يصبح الرئيس على أتم الاستعداد لتنفيذ أي أمر من أسياده في واشنطن دون شك، بما في ذلك استفزاز عسكري انتحاري ضد روسيا في الدونباس أو في شبه جزيرة القرم. ومع هذا، فالأزمة السياسية الداخلية التي تلوح في الأفق داخل أوكرانيا قد تعرقل الخطط الأمريكية. فالقضاء على المهرج المستنفد، وترشيح رئيس جديد غيره، واستكمال الإجراءات الانتخابية كافة، سيشلّ أوكرانيا لبعض الوقت، وسيجعل من المستحيل استخدامها كمطرقة ضد روسيا مؤقتاً، كما أن هناك خطر ماثل في زعزعة استقرار أوكرانيا على المدى الطويل. إذن فعلى الولايات المتحدة الأمريكية استخدام زيلينسكي وأوكرانيا قبل أن تغرق في الفوضى، هذا علاوة على أن التوتر حول بيلاروس آخذ في الانخفاض التدريجي، ويبدو أن ذروة الأزمة قد ولت. في ظل هذا، يحدوني يقين وثقة كبيرين في أجهزة الاستخبارات البريطانية، باعتبارها ملكة الاستفزازات السياسية، منذ أيام لورانس العرب، حينما كان البريطانيون يبرعون في تنفيذ سياسة "فرق تسد"، وتنظيم الانقلابات وإثارة الحروب. وأعتقد في هذا الشأن أنه سيكون من صميم مصلحة البريطانيين، وهو ما يليق بأساليبهم، تنظيم عملية تسميم للرئيس الأوكراني باستخدام سم "نوفيتشوك" الزعاف، والذي تجيد المعامل الغربية تصنيعه، بما في ذلك داخل معمل بورتون داون الشهير في سالزبوري. بطبيعة الحال، ومع الأخذ في الاعتبار كل القصص البوليسية السابقة، سيكون لدى الغرب فرصة ذهبية لإلقاء مزيد من اللوم على روسيا في ذلك، فلا تنظر المجتمعات الغربية إلى أي عمل للغرب ضد روسيا، بما في ذلك العمل العسكري، بوصفه رد فعل مفرط. أتفق تماماً مع عبثية قصة كهذه بالنسبة لشخص محترم، ولكن أي قصة غربية عن روسيا في السنوات الأخيرة لم تكن عبثية؟ بدءاً من "رشا غيت"، مروراً باستفزازات "الخوذ البيضاء"، وعملية التسميم في إنجلترا، وانتهاءً بالتفجيرات المزعومة في مستودعات عسكرية في جمهورية التشيك وغيرها. شخصياً، لن أفاجأ على الإطلاق، إذا ما تم تنفيذ هذه الفكرة. المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب تابعوا RT على
مشاركة :