كشف الصراع الأخير الدائر داخل تنظيم "الإخوان المسلمين" عن إفلاسه على المستويات كافة، الأخلاقية والإدارية والقيمية. فالحركة التي صدعتنا بطهارة يديها، تتهم الرجل الأول فيها بأنه تربّح من موقعه ونقل أصول التنظيم الذي ينتمي إليه وممتلكاته إلى نفسه وأسرته. اتهامات لم تكن جديدة على الجماعة ولكنها كانت مخفية، ونجح التنظيم في تشويه من يكشفها واغتياله معنوياً، هذه الاتهامات التي ثبتت بدلائل كان مصدرها الإخوان أنفسهم، وفي الحقيقة لم يكن اتهاماً واحداً بل اتهامات كثيرة ولقيادات كثيرة. الخلاف الدائر داخل تنظيم "الإخوان المسلمين" الآن لم يكن، كما ذكرنا في السابق، خلافاً سياسياً، ولم يكن تبايناً في وجهات النظر بين المتخاصمين أو المتحاربين، بل خلافاً على السلطة والمال داخل الجماعة! خلاف دفع كل طرف في الصراع الى اتهام الطرف الثاني بأنه فاسد ومفسد، اتهامات طالت الذمة المالية والتنظيمية والفساد الأخلاقي، والقراءة المنصفة والواقعية لما تشهده الجماعة تقضي بأن التحولات التي تمر بها مقدمة لتفكيك بنية التنظيم، وهنا نشدد على تفكك البنية التنظيمية وليس أفكار التنظيم، التي قد تأخذ وقتاً، كما نشير إلى أن التنظيم منقسم إلى قسمين، فالصراع لم يكن مجرد خلاف بين بعض القيادات أو بين القيادة المركزية للجماعة وبعض المجموعات، بل صراع بين نصف التنظيم ونصفه الثاني. الإخوان يتصارعون الآن على اسم الجماعة ورسمها، فلم يعد مُتبقياً داخل التنظيم مؤسسات قوية مجمع عليها، تم تقسيم هذه المؤسسات بين المتحاربين، أو قل كل طرف من أطراف الصراع وضع يده على ما يملكه من مؤسسات، فكما وضع محمود حسين، الأمين العام للتنظيم سابقاً، يده على موقع الجماعة الرسمي "إخوان أون لاين"، استحدث الأمين العام للتنظيم الدولي والقائم بأعمال مرشد الإخوان إبراهيم منير، منصة إعلامية جديدة تحمل اسم "الإخوان" أطلق عليها "إخوان سايت". وهنا دلالتان تمكن الإشارة إليهما، للقول بأن خلاف الإخوان وصل إلى الصراع على اسم الجماعة، فكل منهما يدّعي أنه الممثل الشرعي للتنظيم، وهذه الحالة مقدمة الانهيار الكبير وتفكك بنية التنظيم، وهو ما توقعناه منذ سنوات قليلة، هذا التفكك يحدث للتنظيم من داخله بعدما شاخ وشاخت أفكاره وما عادت صالحة للحياة، وبقاؤه طوال هذه السنوات كان مرتبطاً بطرق المواجهة الخاطئة عبر العقود الماضية، والاحتضان غير المبرر، حيث يتم استخدام التنظيم في الصراعات السياسية "الداخلية"، وهو ما قوّى من شوكته، ولعله يكون سبب بقائه طوال هذه الفترة. حركة "الإخوان المسلمين" تشبه بعض الطوائف والأحزاب والفرق التي امتلأت بها صفحات التاريخ في مراحل انهيارها الأخيرة، فعندما تستهلك كل طائفة نفسها في طمس خصومها، بعد أن تنزع الصفة التنظيمية عن هؤلاء الخصوم، تبدأ الدخول في مرحلة صراع جديدة، ولعل هذه المرحلة تمثل النهاية، حيث الصراع على اسم الجماعة، وغالباً ما يكون ذلك في وقت متأخر من انهيار بنية التنظيم أو الطائفة أو الفرقة، يبدو حلقة من حلقات الخلاف، ولكنها قد تكون الحلقة الأخيرة والنهاية القريبة والمؤكدة. الخلاف داخل الجماعات الدينية المؤدلجة يختلف بعض الشيء عن الخلاف داخل الأحزاب السياسية، فالأول يُستخدم فيه الدين والحديث باسم الدعوة في تهميش الخصوم وعزلهم وتكفيرهم، أما الثاني فيركز فيه على أداء الخصوم، وقد يكون الصراع حامي الوطيس، فيتهم كل طرف الطرف الآخر بالفساد، وهو أقصى ما يصل إليه المتصارعون في عالم السياسة. في التنظيمات الدينية "المتطرفة"، يقدم سوء النية وتُعلب الاتهامات طالما شك المتصارعون في بعضهم بعضاً، وسريعاً ما يأخذ الصراع بعداً دينياً، على أساسه يتهم كل طرف الطرف الآخر في عقيدته، مرات تكون الاتهامات واضحة ومرات تكون متلونة، تحملها الكلمات وترصدها نبرة الصوت وحركة العين، وكلها أشبه بالخنجر الذي يضربه كل طرف في ظهر الطرف الآخر، حتى ينتقل الصراع إلى منطقة جديدة. يحضرني صراع دار بين بعض أعضاء تنظيم "الجهاد الإسلامي" في مصر في التسعينات من القرن الماضي، وهي الفترة الزمنية التي شهدت عمليات مسلحة من قبل التنظيم المتطرف ضد قوات الشرطة الداخلية. كانت مقدمة هذا الصراع اتهامات دفعت إلى قتل الخصوم داخل التنظيم على أيدي أعضاء التنظيم أنفسهم بدم بارد في الشارع وأمام المارة. ليس ذلك فقط، وإنما كان يوضع بعض فوارغ القنابل على جثث أعضاء التنظيم الذين اختلفوا معهم أو شكوا فيهم، حتى يثيروا رعب المارة فلا يقتربوا من هذه الجثث، وبالتالي تظل الجثة أو الجثث أكبر وقت ممكن في الشارع يراها النّاس ملطخة بالدماء، وهو نوع من الإرهاب لا تجده إلا عند هذه التنظيمات التي أمعنت في القتل وأخّرت دفن الجثث. صحيح أن درجة الخلاف هذه وصلت الى مداها في القتل والتمثيل بالجثث، ولكنها تبقى صورة من صور الخلاف، فالخلاف مع عضو التنظيم "المختلف" معه أو عليه، أشد من الخلاف ممن يعاديهم التنظيم أو من هم خارج التنظيم، وهذه صورة جديدة من صور تطرف التنظيم. مشكلة التنظيمات الدينية المتطرفة أنها إذا ما دخلت حلبة الصراع مع الدولة أو مع المختلفين معها، حتى ولو كانوا أحزاباً سياسية أعطت للصراع بُعداً دينياً بهدف اغتيال الخصم أو تبرير أي سلوك ضده، وهو دليل تطرف هذه التنظيمات التي لا يمكن أن يسمح لها بالولوج إلى عالم السياسة طالما أشهرت الدين سلاحاً في مواجهة خصومها "السياسيين". التنظيمات الدينية المتطرفة تعمل على صبغ أي صراع سياسي بالصبغة الدينية، وتقحم الدين في أي صراع، فهو سلاحها للقضاء على الخصوم مهما كان شكل الخصومة ودرجتها، وهنا تُطلق الجماعة أحكامها على كل من لا يقف معها أو يكون في صفها أو يُدافع عن خياراتها، لمجرد الاختلاف "السياسي" معه، يتم إشهار سلاح الدين في وجه الخصوم أو قل سلاح التكفير. الإخوان ليس لديهم ما يستطيعون أن يقدموه للنّاس بخلاف التطرف والتكفير، فالكراهية شعار التنظيم والدين سلاحهم في مواجهة الخصوم، النّاس في نظرهم إما أن يكونوا في فسطاط الإيمان، وهؤلاء هم أعضاء التنظيم والقريبون منه أو من لم يُناصب التنظيم العداء أو لم يختلف معه، وفسطاط الكفر، ويمكن أن تضع فيه كل من لم يكن عضواً في التنظيم، بخاصة إذا سعى إلى تفكيك أفكاره أو بنيته التنظيمية، حالة التكفير هذه دفعت التنظيمات الدينية الأخرى إلى ممارسة العنف بتصورات الإخوان نفسها التي طرحها المؤسس الأول حسن البنا ومن بعده سيد قطب، وهو ما أكدته أدبيات الجماعة المروية. أهمية الصراع الأخير داخل تنظيم "الإخوان المسلمين" أنه كشف التنظيم بصورة كبيرة وربما أكد إفلاسه، ولعلها سنّة كونية، أن ينهار التنظيم على عتبة "الإفلاس" التي لا يملك غيرها، والتي كثيراً ما يتهِم الآخرين بها، وربما يُعطي لنفسه قيمة من كونه الممثل الحصري للقيم والأخلاق الإسلامية! اختار "الإخوان المسلمون" لأنفسهم اسماً منذ بدء النشأة في نهاية العشرينات من القرن الماضي، سأل جمع من الحواريين الملتفين حول حسن البنا، بحسب ما جاء في أدبيات الجماعة، وما اسم هذه الجماعة يا إمام؟ فرد إننا "الإخوان المسلمون"، فاختار الإخوان اسماً والمسلمين رديفاً للاسم وشعاراً للجماعة، ولكن الحقيقة كشفت وجهاً آخر واسماً جديداً يطل به التنظيم على العالم بعد قرابة قرن من الزمان، فحق أن نطلق عليهم الإخوان المفْلِسين.
مشاركة :