دخلت المواجهة بين الإدارة الأميركية وحلفائها، مما باتت تعرف بـ "الدول ذات المخزون النفطي الاستراتيجي" ومنتجي النفط، ضمن تحالف "أوبك بلس" هذا الأسبوع، مرحلة جديدة تمثلت في إفراج الرئيس الأميركي، جو بايدن، عن 50 مليون برميل من الاحتياطي النفطي الاستراتيجي للولايات المتحدة، ودعوته للدول المستهلكة للنفط في العالم كالصين، والهند، واليابان، وكوريا الجنوبية، إلى دراسة استخدام احتياطياتها منه، وقد استجابت الهند -حتى الآن- لدعوة بايدن بالإفراج عن 5 ملايين برميل من مخزونها الاستراتيجي. ويسعى بايدن إلى بناء تحالف يجمع الدول المستهلكة للنفط، في مسعى لمواجهة الأسعار، التي تعتبرها الولايات المتحدة مرتفعة، بعد قرار "أوبك بلس" مطلع الشهر الجاري، الاكتفاء بزيادة الإنتاج في حدود 400 ألف برميل يومياً فقط. وجهتا نظر ويرى تحالف "أوبك بلس"، الذي يجمع منتجي النفط في منظمة "أوبك" إلى جانب المنتجين المستقلين، أن زيادة إنتاج النفط تتطلب مراقبة مستمرة لأوضاع السوق، خصوصاً الطلب إلى جانب تأمين احتياجات المستهلكين بالتوازي مع استمرار مرحلة التعافي من جائحة "كورونا"، وارتفاع نسب التحصين، ومدى عودة الأعمال، لاسيما النقل والتصنيع في العالم، إلى سابق عهدها، وإن إدارة بايدن، وهي بالمناسبة مناهضة للنفط التقليدي لمصلحة البدائل النظيفة، ترى أن تباطؤ "أوبك بلس" في زيادة الإنتاج سيعيق خفض الأسعار إلى مستويات مقبولة لدى المستهلكين، وبالتالي سيبطئ تحفيز التعافي الاقتصادي. نظرة على المخزون وبنظرة عامة على واقع خيارات السحب من الاحتياطات النفطية، نجد أن أضخم كميات المخزون النفطي الاستراتيجي موجود لدى الصين بنحو 880 مليون برميل، التي كونت مخزونها النفطي الاستراتيجي قبل 15 عاماً، إذ نظمت أول مزاد لبيع كميات من الاحتياطي في سبتمبر الماضي، وأعلنت انضمامها إلى مبادرة بايدن دون أن تحدد الكميات التي ستفرج عنها، أما الولايات المتحدة، التي بدأت تكوين مخزونها عام 1975، بعد أن أدى حظر النفط العربي إلى ارتفاع أسعار البنزين، وإلحاق الضرر بالاقتصاد الأميركي، وهذا المخزون لا يتم السحب منه إلا في أحوال استثنائية كفترات الحرب أو عند حدوث أعاصير تسببت في تعطل البنية التحتية لاستيراد النفط، فإن كميات المخزون المعلنة لديها تصل إلى 600 مليون برميل، وتكفي الاستهلاك الأميركي ما بين 35 إلى 45 يوماً. كما تمتلك دول أخرى مستهلكة احتياطيات نفطية مهمة كاليابان الثالثة في المخزون الاستراتيجي عالمياً، التي أعلنت أنها "تدرس طلب بايدن خصوصاً في حال وجود اختلال في الإمدادات، شرط ألا يمس ذلك بالحد الأدنى المطلوب قانونياً، لتكوين احتياطيات المخزون النفطي، في حين كشفت الهند عن خطط للسحب من احتياطياتها الاستراتيجية من النفط بالتنسيق مع كبار المستهلكين. خيارات المستهلكين تاريخياً، تتنوع آليات ضغوط كبار المستهلكين الاقتصادية بقيادة أميركا، فضلاً عن السياسية، على منتجي النفط، بل يمكن القول إن خيارات المستهلكين في الضغط على المنتجين أكثر فعالية من قدرتهم على مقاومة ضغوطات المستهلكين، لاسيما في حالة الدول النفطية الخليجية، التي لو حيّدنا العامل الأمني والسياسي في أهمية علاقاتها مع الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، فإنها مرتهنة بنسبة لا تقل عن 80 في المئة من إيرادات موازناتها السنوية على إيرادات النفط، لاسيما أن إجراءات سحب الاحتياطيات لم تحد من صعود أسعار النفط خلال اليومين الماضيين، مما يفتح المجال لترتيب سياسات أخرى أكثر شدة وفعالية. فعلى المدى القصير، لا تتوقف خيارات المستهلكين عند مجرد السحب من المخزون النفطي الاستراتيجي، إنما يمكن أن تمتد إلى حظر الصادرات البترولية الأميركية إلى الأسواق الخارجية، للاستفادة منها داخلياً، وبالتالي دعم خفض أسعار الوقود في الولايات المتحدة، أو العمل على تكثيف الضغط السياسي على كبار المنتجين في "أوبك بلس" قبل اجتماعهم في الثاني من ديسمبر المقبل، وهو المقرر لمناقشة سياسة الإنتاج لزيادة كمياته عما تم الاتفاق عليه مطلع الشهر الجاري. قانون «نوبك» أما على المدى المتوسط فلدى الولايات المتحدة خيارات أوسع كإعادة إحياء ما يعرف بقانون "نوبك"، الذي يتيح رفع دعاوى قضائية لمكافحة الاحتكار ضد الدول الأعضاء بمنظمة "أوبك"، أو ربما "أوبك بلس"، مما يجعل الدول الأعضاء في المنظمة أو المتحالفين معها عرضة لعقوبات مالية قاسية، بصفتها دول احتكارية لأهم منتج طاقة في العالم، وتمارس تدخلات تحدد أسعاره للمستهلكين - حسب الرأي الأميركي - رغم أن "أوبك" والمتحالفين معها يشكلون 50 في المئة من إجمالي الإنتاج العالمي للنفط... كذلك يمكن لإدارة بايدن أن تقدم حزمة تحفيز لشركات النفط الصخري الأميركية، بهدف إنتاجها بدرجة تضمن توفير كميات أكبر من المعروض في الأسواق العالمية، ناهيك عن التنسيق مع المجلس الاحتياطي الفدرالي، مع مراعاة حزمة سياسات نقدية ومالية أخرى، لرفع الفائدة سعياً للحد من التضخم. بايدن والمناخ أما على المدى الطويل فإن سياسات بايدن، منذ بداية حملته الانتخابية، أظهرت دعماً واضحاً لقضايا المناخ والبيئة، وتعزيز الاستثمارات الخضراء، والتحول نحو الطاقة المتجددة، مع التعهد بإزالة الكربون من قطاع الكهرباء في الولايات المتحدة بحلول عام 2035، وقد شرع بالفعل خلال سنة رئاسته الأولى في برامج تحفيزية للطاقة النظيفة، بقيمة تصل إلى تريليوني دولار، لخفض الانبعاثات الكربونية، وهذا الدعم يتجاوز مسألة إعداد البنية التحتية للتحول البيئي إلى إعادة إحياء سياسات عقابية تقلص دور منتجي النفط التقليديين في الأسواق، وأبرزهم منظمة "أوبك"، وتالياً تحالف "أوبك بلس". إن مسألة تقييم وجهتي نظر المستهلكين أو المنتجين للنفط ليست متعلقة بالحق أو الباطل، أو المبالغة في الحديث عما يعرف بالنفاق البيئي، كأن تطلب إدارة بايدة المناهضة للنفط التقليدي من دول "أوبك بلس" زيادة إنتاجها لخفض أسعار الطاقة والوقود بقدر ما هي مرتبطة بخيارات كل منهما في فرض وجهة نظره كقرار نهائي، خصوصاً أن خيارات المستهلكين من المدى القصير إلى الطويل من سحب المخزونات إلى الرهان على الطاقة المتجددة تبدو أكثر مرونة من خيارات المنتجين، لاسيما الدول الخليجية، التي تعتمد على النفط الخام، بنسب عالية في تمويل إيراداتها. تحديات غير مسبوقة الحديث عن أفول عصر النفط على جديته غير محسوم، لكن المؤكد أن سلعة النفط الخام لدى المنتجين التقليديين، وعلى رأسهم الخليجيون، تواجه تحديات لم يسبق أن واجهتها في أي مرحلة زمنية سابقة، فأسعار النفط اليوم، التي تعتبر أساس الاقتصاد الخليجي وماليته، لم تعد كما السابق سهلة الارتفاع، إنما برزت فيها عوامل وتحديات جديدة يتعلق بعضها بالنمو العالمي، والحروب التجارية، وتعدد المنتجين، وصولاً إلى عقوبات أو سياسات مناهضة للاحتكار والأضرار البيئية، وربما حتى جباية الضريبة من الدول المصدرة للنفط. ولا شك أن مقاومة هذه السياسات تتطلب مرونة مالية غير متوافرة للمنتجين، خصوصاً الخليجيين، تجاه الاعتماد المبالغ فيه على النفط، فمستهلكو النفط اليوم أكثر قدرة على تحديد اتجاهات السوق من منتجيه!
مشاركة :