أَوقِد فَإِنَّ اللَيلَ لَيلٌ قَرُ وَالريحَ يا موقِدُ ريحٌ صِرُّ عَسى يَرى نارَكَ مَن يَمُرُّ إِن جَلَبَت ضَيفاً فَأَنتَ حُرُّ «حاتم الطائي» لو اختار عنترة أن يظل عبدا، وخَلَد إلى حياة الرعي بدلا من أن يكون فارسا يضحي بروحه من أجل قومه، لما ترك لنا تلك المفارقة الهائلة بين العبودية والفروسية. ولو كان حاتم الطائي لا ينفق إلا عندما يكون في سعة، ولا يوقد ناره إلا عندما يكون التحلق حولها شاعريا ورومانسيا، لما عرفنا شخصا اسمه حاتم. ولو لم يحرق طارق بن زياد سفنه ويشحذ همم مقاتليه الذين لم يتجاوز تعدادهم إثني عشر ألفا بكلمات بسيطة ومؤثرة، حيث خيّرهم بين النصر أو الاستشهاد، لما استطاع فتح الأندلس والتغلب على جيوش أسبانيا البالغ تعدادها مئة ألف مقاتل. إنهم جميعا خلقوا لنا مفارقة عظيمة بقفزهم فوق واقع الحال، ليضعوا لنا صورة مغايرة لما جبلت عليه النفوس من طبائع وأتوا بصورة متناقضة مع ما يتوقعه الناس من خَوَر عند اشتداد الأزمات. العالم اليوم يشكو من أزمة حادة في توفر القيادات الكفؤة على كل الأصعدة. ففي استطلاع نشر مؤخرا (2014) لشركة «رايت مانيجمانت» وشارك فيه أكثر من 2200 من كبار المسؤولين والخبراء في الموارد البشرية في العالم، تبين أن التطوير القيادي يحتل المركز الأول بين كل الأهداف الأخرى المتعلقة بالموارد البشرية. فليس من السهل أن يكون الإنسان قائدا عظيما، حتى في الأوقات السهلة. وتأتي الصعوبة جزئيا بسبب ديناميكية تنشأ بشكل طبيعي في علاقات القوى غير المتكافئة. إذ تؤكد الأبحاث ما يعتقده كثير منا، بأن الأشخاص الذين يملكون السلطة يميلون إلى أن يكونوا أكثر أنانية، وأقل اهتماما بما يقوله ويهتم به الناس. وَمِمَّا يفاقم المشكلة، أن المرؤوسين بالمقابل يتابعون عن كثب ويمحصون كل ما يصدر عن القائد من أقوال أو أفعال. وقد اتضحت الديناميكية، المتعلقة بصدود القائد عن هموم تابعيه، من خلال ما يسمى بتجربة الكعك. فقد قام العالم النفساني داكير كيلتنير وفريقه (2003) بتشكيل مجموعات، كل مجموعة مكونة من ثلاثة أشخاص. وطُلب منهم إنجاز مهمة كتابية. واختير عشوائيا اثنان من المجموعة ليقوما بإعداد الورقة، بينما كان دور الشخص الثالث يتمثل بتقييم الورقة وتحديد أجرهما، أي أنه يرأسهما. وخلال التجربة، يؤتى بصحن فيه خمس قطع من الكعك، ويُطلب ألا يأكل أحد منهم القطعة الأخيرة. ولكن المدهش هو ما حصل للقطعة الرابعة، حيث إنها زائدة ويمكن أخذها دون أية مخالفة للتعليمات. فقد اتضح من التجربة أن الشعور بالسلطة ولو كان هامشيا، له أثر كبير في التصرف. فلم يكتفِ قادة الفِرَق بأخذ القطعة الرابعة فحسب، بل وأظهروا سلوكا غير لائق من خلال المضغ بفم مفتوح ونثر فتات الكعك على الطاولة. وقد أكدت نتائج هذه الدراسة عدة دراسات أخرى. فالناس - وبصرف النظر عن شخصياتهم - عندما يمتلكون السلطة، فإنهم يصبحون (1) أكثر تركيزا على مصالحهم الذاتية، و(2) وأقل اهتماما بمصالح الآخرين ورغباتهم وتصرفاتهم، و(3) يتصرفون كما لو أن الأنظمة والقوانين لا تنطبق عليهم. كما يعتقدون أنهم على علم واطلاع بكل التطورات المهمة في المنظمة، حتى عندما يجهلونها. وعندما يكون الوضع الاقتصادي مترديا أو تمر المنظمة بأزمة عصيبة، فإنه من الصعوبة بمكان أن تكون قائدا جيدا. فالضغوط التي تحيط بك، تشل عواطفك، ويصبح تركيزك منصبا على توجهات من هم أعلى منك، وتنطوي على نفسك في محاولة التغلب على مخاوفك. وهذا الخوف المتنامي، يجعل مرؤوسيك يتابعون كل تحركاتك بشكل دقيق، للبحث عن أي إشارة تدل على ما سيحصل لهم مستقبلا، وما يمكن أن يفعلوه حيال ذلك. والناس في ذلك تتشابه مع بقية المخلوقات. فقد أثبتت إحدى الدراسات أن أفراد فصيلة البابون من القردة تنظر إلى قائد المجموعة كل نصف دقيقة لمعرفة ماذا يفعل. فالاهتمام دائما يُوجه للأعلى في التسلسل الإداري. والمرؤوسون يعرفون أكثر عن رؤسائهم وليس العكس. لذلك، تحتاج الأوقات الصعبة إلى قيادة تحويلية تتمكن من ضبط نغمة العواطف ورفع الرُّوح المعنوية في المنظمة واستنفار الهمم لتحقيق الأهداف، ومساعدة الناس للتحول من عقلية الضحية السلبية إلى العقلية الإيجابية الفاعلة التي تملك دائما خيارات للتصرف. فإذا ما تصرفنا بتفاؤل وهمة ونزاهة وقدرة على التحمل، فسنفاجئ أنفسنا. وحتى لو خسرنا، فبإمكاننا أن نفخر بأدائنا. ولنتذكر أن الأسماك النافقة فقط هي التي تسبح مع التيار. ولا بد للقائد في الأوقات العصيبة أن يدرك بأنه القدوة. فهو الذي يحدد التوجه. فإذا كان إيجابيا وواثقا ومتفائلا، فمن المرجح أن يكون ذلك نهج الذين يقودهم. وإذا أظهر العزم والتصميم، فسيتبعه من حوله. فكما أن الجبن واليأس معديان، فإن الإقدام والحماس هما كذلك أيضا. إن القادة الذين يخطفون الكعكة الرابعة والخامسة هم للأسف الأغلبية الساحقة بيننا. وهم الذين يجروننا للوراء، ولا يصلحون أن يقودوا منظماتهم في الأوقات الاعتيادية ناهيك عن الظروف الصعبة.
مشاركة :