رينيه كاراباش" هو الاسم الأدبي الذي تستخدمه للشاعرة والروائية البلغارية إيرينا إيفانوفا المولودة عام 1989 أنهت دراستها الجامعية في بلغاريا، ثم درست لمدة عام في فرنسا، أتقنت خلالها الفرنسية، وكتبت الكثير من المقالات الأدبية وعملت في مجال الترجمة الحرة من الفرنسية، كما عملت في الصحافة والإخراج والتمثيل. صدر لها ديوان شعر بعنوان "الخصر والفراشة الذي فاز بالجائزة الوطنية للشعر في بلغاريا عام 2016. وهذه الرواية "المرابطة" التي صدرت ترجمها أخيرا خيري حمدان ونشرتها دار صفصافة نالت عنها جائزة "إلياسي كانيتي" عام 2019. "المرابطة" تأخذنا فيها رينيه كاراباش في رحلة داخل عقول وقلوب مظلمة تحكمها تقاليد غارقة في العنف والغرابة، وكأننا ندخل عبر الرواية إلى ثقب أسود نتنقل بقفزات بارعة بين تقاليد العصور الوسطى وحياة القرن الحادي والعشرين. تختار بطلة العمل التخلي عن أنوثتها لتصبح "مرابطة" وفق أعراف ألبانية قديمة، فتحمل اسما ذكوريا وتمارس حياتها بعد ذلك كرجل ورب أسرة وتتخذ تدريجيا ملامح رجولية، ولكن رغم قسوة هذه التقاليد تنجح الكاتبة في تقديم "بكية" بلغة بها الكثير من العذوبة والشاعرية، فنستمع إلى مونولوغات حائرة حول أوضاع النساء والحياة والحب والتقاليد. يشير المترجم خيري حمدان في تقديمه إلى الرواية أنها تلقي الضوء على تقاليد ومراسم عريقة في إقليم البلقان وتحديدًا في جمهورية ألبانيا. تقاليد غارقة بالعنف والغرابة عفا عليها الزمن ولم تعد صالحة في الوقت الراهن. ألبانيا شهدت مرحلة شبيهة نسبيًّا بالعصر الجاهلي في العالم العربي، حيث حمل الكثير من الرجال في هذه الدولة البلقانية شارات سوداء على أذرعهم إشارة لنيّتهم للأخذ بالثأر قتلًا أو لأنّهم موضع انتقام دمويّ لسببٍ أو لآخر. وفي ظلّ هذه اللوحة السوداء يتراجع دور المرأة في هذا الإقليم لكثرة عمليات قتل الرجال، وتولد بِكيّة؛ والاسم مشتقّ من كلمة "باقية"، على الأرجح انتقلت لألبانيا عبر الثقافة العثمانية التي حكمت لفترة طويلة العديد من دول البلقان. ويتابع "بكِيّة الحائرة بطبيعة جسدها ورفض والدها ـ المحكوم بالموت ـ لأنوثتها تفضّل العنوسة وتدلي بقسم العذرية وعدم الرضوخ لنداء الجسد ونراها تتّخذ تدريجيًّا ملامح رجولية، بل وتعشق الفتاة الجميلة دانا التي تعيش في العاصمة البلغارية صوفيا وهي من أصول ألبانية تحضر للقرية لقضاء العطلة الصيفية. ويؤكد حمدان أن الرواية تصنّف ضمن أدب الحداثة وما بعد الحداثة، فهي خالية من علامات الترقيم كافّة وأنه بذل جهدًا كبيرًا لتوضيح العديد من المواقع لفهم النصّ، وهناك تداخل واسع في البوح الذاتي الذي تتخلّله حوارات داخلية مفاجئة مع آخرين ما يضفي على العمل سمة شاعرية مفرطة تصبّ لتثري العملية الإبداعية، لكنّها تحتاج لمزيد من التركيز وفهم طريقة تفكير إنسان البلقان بصورة عامّة. يرى أن البعض قد يعتقد أنّ الرواية غارقة بالسواد، لكنّها ترمز للخلاص وتدعو لاحترام وتقدير الإنسانية باسم الحبّ والشرف والكرامة. الحبّ الذي يتحوّل لعداوة وإعلان حكم الموت ما بين الأخ وأخيه "الأخت" الحائرة في تحديد جنسها والدعوة للغفران والخلاص من العادات البالية. كما تقدّم الرواية معلومات وافية عن طباع أهل البلقان، وهذه مناسبة للتعرّف على تفاصيلها خاصّة أن ما يُترجم من لغات البلقان شحيح للغاية مقارنة باللغات العالمية الرائدة، الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية وغيرها. ويلفت إلى الرواية كتبت باللغة البلغارية وتحتوي على الكثير من المفردات المستخدمة في العديد من دول البلقان، ألبانيا، مقدونيا الشمالية، الجبل الأسود، كوسوفو وغيرها التي خضعت لعقود طويلة للحكم العثماني وتأثّرت بالحضارة المشرقية بكلّ مبادئها وأعرافها الغارقة بالقدم، لكنّها كتبت بقلم فذّ معاصر يجذب القارئ للغوص في أعماقها مع أولى صفحات هذا العمل. نقرأ في متن هذه الرواية عصارة التجربة التي عايشتها بِكيّة المرأة، رمز الحبّ والحياة والأمل. أما الكاتبة فتفتتح روايتها بما اطلقت عليه "نهاية البداية" حيث تقول "تلك كانت حكاية بِكيّة، الفتاة الأنثى التي رغبت أن تصبح ابنًا ذكرًا. اختارت تلك المرأة الحياةَ أمامَ الموت. هي ذاتها التي علّمتني الطموح والكتابة بقلبي. أهدي هذه الرواية لها ولكلّ من يجد ذاته طيّ هذا المؤلّف. لست آسفة لأنّي غادرت مقرّ إقامتي الإبداعيّة، يجب على كلّ شخصٍ أن يتواجد هناك حيث أفكاره، ولم لم تكن بِكيّة من حولي لما تمكّنت من كتابة هذه الرواية. أرغب بالتأكيد على أنّ الحبّ ليس حكرًا على جنسٍ واحدٍ فقط، ولا يخضع للقوانين ولعامل الزمن وإذا ما انطلق المرء ضدّ إرادته الذاتية فإنّ الحياة ستضمر له العداء. أومن بتوازن الحياة وبالطبيعة والسكينة التي نشعر بها حين تغوص أقدامُنا في الأرض ونشعر بخفّة وأنّ السلام قد ملأ رحاب أنفسنا وأنّ فرحًا مطلقًا يملأ فضاءات إنسانيّتنا. هذه هي اللحظة التي يمسك فيها الخالق بيدنا، وما علينا سوى أن نبتسم ونتبع أثر الإله". وتضيف موضحة "المرابطة: قسمُ العذارى، امرأة أقسمت على أن تبقى عذراء حسب شريعة لوكا دوكاغيني الألباني، وبدأت تمارس الحياة كرجل وربّ عائلة في المجتمعات الأبوية البطريركية في شمال ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا وصربيا والجبل الأسود وكرواتيا والبوسنة. يعدّ هذا القسم من الناحية الدستورية استبدالًا وتغييرًا للجنس فور الإدلاء بالقسم. تمتلك المرأة بعد ذلك جميع الحقوق التي يتمتّع بها الرجل، والتي تحرم منها النساء تقليديًّا في هذه المجتمعات. كما أنّ العداءات الدموية تميّز الأماكن التي تخضع لهذا التشريع. لم يتبقّ في الوقت الراهن سوى عدد محدود من النساء اللواتي أدلين بالقسم لأنّ المناطق المعنية باتت غير مأهولة في معظمها. كلّ هذه العادات والتقاليد تحدث وتتواجد على بعد 537 كيلومترًا بعيدًا عن بلغاريا. هذه ليست حكاية أو أسطورة بل تاريخ إنسانيّ. هناك العديد من المرادفات التي يوصف به هذا النمط من النساء: فتاة، صديق، حرمباسا، موشكوبانيا، فيرغينيشا، وموشكارا. حين كنت في بطن أمّي سمعتُ أشياءَ كثيرة وسمعتُ أبي يردّد: أريد ولدًا. حين ولدتُ أدركت أنّ الابن يعني "لون" لأنّ أمّي باحت لي مرّة ابنتي الغالية، عيناك زرقاوان كالسماء والسماء كانت زرقاء هذا يعني أنّ الابن لونٌ. منذ ولادتي وأنا أطالب أمّي أن تلبسني أزياء زرقاء دون غيرها وإذا ما ألبستني رداء بلون آخر أجهش بالبكاء لأنّني ومنذ كنت في بطن أمّي سمعت أشياء مختلفة وسمعتُ أبي يردّد: أريد ابنًا. ألبستني أمّي اليوم ثوبًا أزرق ذهبت لأبي ليرى ثوبي طلب منّي هو أن أتركه ليستمع لنشرة الأخبار ما يعني أنّني جميلة جدًّا. لا أفهم هل يمكنك أن تخبريني ما معنى أن أتركه ليستمع إلى نشرة الأخبار؟ وما معنى: خبر عاجل طفلة شنقت نفسها بحبل السرّة! مقتطف من الرواية بكية Bekiya أقسم بلوكا دوكاغيني سيّد ألب ألبانيا: إنّني وحتّى آخر لحظة من حياتي، حتّى آخر لحظة من حياتي لن أمسّ رجلًا. لن أمسّ رجلًا وسأحافظ على براءة عذريتي، ناكرة حضور المرأة في ذاتي إلى الأبد. ناكرة حضور المرأة في ذاتي إلى الأبد. أنصاع مطيعة لهذا القسم وأنوي عدم اتباع غيّ غرائزي الفطرية، وأنا اليوم أمام اثني عشر حكيمًا أقبل بالاسم الذكري ماتيا – Matia على أن يصبح اسمي الوحيد، ولتقصّ النساءُ شعري ولتحرق أثوابي رمادًا، ولتصبح ملابس الرجال ظهري وقدميّ وبشرتي. ظهري وقدميّ وبشرتي. ليشهد على قسمي الربّ وهؤلاء الآباء الحكماء بأنّني سأحافظ على قسمي هذا مدعومًا بجدائلي وشرفي قدر المستطاع. أنا ماتيا الابن سأعتني بعائلتي، سأضمن لهم قوتهم وأقضي كلّ حاجاتهم، حسبما يسمح به التشريع والقانون، لأنّ البطالة عدوّة الروح. لهذا سأنشغل لساعات محدودة بإنجاز أعمال يدوية، في هذه الحالة فقط سأصبح راهبًا متعبّدًا للحقيقة، حين أسدّ كفاف يومي بيديّ هاتين. وسأصون هذا القسم بيمنٍ وبركة ولن أسمح يومًا بما يخلّ بالعهد والشرف وسأبقى وفيّة لكلمتي وقسمي، لأحظى بالسعادة طوال عمرٍ مديد محاطة بالاحترام والتشريف. وإذا ما خنت هذا القسم فلتحلّ عليّ اللعنة. من أجل الأرض والسماء، لهذا الخبز وهذه العظمة. **** زمامُ السماء النور الذي يتسلّل عبر ستائر النافذة يحزّ عينيّ، وحدي في سرير المرض وعلى الدولاب ورقة ملصقة. هل أموت الآن أم بعد قليل، منعوني من الوقوف لكنّي مع هذا أقف وأنتزع الورقة البيضاء ثمّ أتّجه نحو العجوز في السرير المجاور، أهزّ سريرها لأوقظها. تستيقظ وتصيح: ـ ماذا دهاك يا فتاة، هل جننت؟ دعيني أنام، أنا لا أفهمك. ـ اقرئي محتوى الورقة. ربّما بدوت في تلك اللحظة كقاتلة للعجائز لكن هذا غير مهمّ. ـ أنتم معشر الشباب لا تكنّون الاحترام لكبار السنّ. ـ اقرئي. تمدّ العجوز يدها باحثة عن نظارتها، أساعدها وأقدّم لها النظارة. ـ لا أفهم فحوى الرسالة، ليست باللغة البلغارية. ولا أفهمك أنتِ أيضًا، دعيني وشأني. تصرخ العجوز ثمّ ترمي الورقة على الأرض. أنحني لالتقاطها، ينفتح الباب لا بدّ أنّهم قد سمعوا جلبة خلافنا في الغرفة. يدخل أخي سالي. ـ بِكيّة، ما الأمر؟ أقفُ على قدميّ وأمدّ الورقة أمامه. اقرأ يا أخي، ماذا في الرسالة؟ صباح الخير يا بِكيّة، أخبرتك بأنّي على وشك السفر في منحة إقامة أدبيّة لكنّي لم أخبرك بأنّ البارحة كان آخر أيامي في صوفيا وعليّ أن أسافر نهار اليوم إلى بريطانيا. العقد المبرم يسمح لي بالبقاء هناك لمدّة عام كامل ويمكنني البقاء بعد ذلك بصورة دائمة. سامحيني لأنّي اخترت هذه الطريقة للانفصال. أنا لا أودّعك لكنّي أرى أنّه من الأفضل لنا أن نتجنّب لحظة الوداع المؤلمة. الصباح الباكر لم يخفّف من مشاعر الذنب لكلّ الأحداث المأساوية التي تعرّضت لها أنتِ وعائلتك وتثقل عليك. أظنّ بأنّي لا أستحقّ هذا الحبّ وهذه السعادة الوارفة. يبدو أنّه قد كتب علينا البين والبعد وتحمّل مسؤولية عمليات القتل غير المتعمّد التي اقترفناها أمام الخالق وتبعاتها. الأيام الأخيرة كانت الأجمل طوال حياتي. أعادتني لمرحلة شبابي اليافع ولتلك المرحلة البريئة وأقنعتني أنّ الحبّ يتواجد ما خلف الذنوب والخطايا أيضًا. هكذا كنّا ويتعذّر وصف معالم السلام الذي عمّ روحينا في ساعات الصباح الباكر وفي أوقاتٍ متأخّرة من المساء أيضًا حين تخرج عقارب الساعة من إطارها ليصبح الوقت مجرّد تفاصيل، بذرة في وجه كوكب الأرض الذي تشكّكين بدورانه حين أحدّق بعينيك. امتلكتك ثانية ليلة الأمس، سلّمتِ نفسكِ لي للمرّة الأولى بالكامل وهذا هو الأهمّ. امتلكتك في سرير مغطّى بأعشابٍ قطنيّة وبقينا مستيقظتين حين اندلع البركان من عمق الوسادة وكنّا على شفا نومٍ في حمّى لقاء الجسدين ليذوبا في جسدٍ واحد مكتفيين بمتعة التوحّد. لو كنتُ الآن معك في هذه اللحظة ورفعنا ستارة النافذة لشاهدتِ كيف تفتحُ رافعةٌ افتراضية تتمركزُ فوق صوفيا عروة السماءِ ليتدفّق النورُ في الغرفة كقطّة أليفة، كأسدٍ مشمسٍ، نرفض اللعب معه ومزاحمته لتغطّي إحدانا بيدِها وجهَ الأخرى. لسنا جاهزتين ولم نكن يومًا على استعداد لقبول الحياة خارج هذه الغرفة، أن ننهض من السرير وننفتح على العالم الخارجي كما أبطال مارجريت دوراس الذين يبحثون بعضهم عن بعض طوال الحياة، وقبل انقضاء العمر يلتقون عبر اتصال هاتفي أو في عنوان صحيفة عريض. أنا لا أعرف كيف أعومُ خارجة من تموّجات الجسد الملتفّ مشيرًا إلى اليابسة. صراخ متعتك شبيه بصوت طائر يوحي بجزيرة. نحن ناجون أو نكاد، لا أريد، لا أريد هذه اليابسة. اليابسة في أعين الخالات المتعبة وهي تنتظر في الطابور لدفع الفواتير. الأرقامُ في عدادات المياه، سحبٌ من العلاماتِ التجارية تهطل فوقنا، حَلَقٌ في أذُنِ النهار من معدن رخيص، تنكة من الجبن، أسعار غير ثابتة، نسيت ما تبقّى من المال يا سيدتي. أنا الآن بعيدة كلّ البعد لما يزيد على مئة كيلومتر لكنّي لا أزال في قاربك. شعرُك يهزّني كغريق عثر عليه الصيّادون صدفة، حين توقّفت السمكة عن شدّ صنّارة الصيد. وعلى حين فجأة أدركت أنّ الملحَ في شعري هو مخلّفات دمعك، لعلّك لا تفقدين أثري ثانية، لعلّي لا أغوص في تيهنا. لوهلة فقد كلّ شيء قيمته وأهميته، أوانٍ مركّبة متماسكة لمشاعرَ تصبّ إسمنتها فينا. وأنا وأنتِ يا حبيبة محتجزتان في السرير، المهد الوحيد لطفولتنا ورُكَبِنا الجريحة تشفى من آلامها. تتقاذفُ الكرةُ وتحطّ عندَ نُصُبْ. إنّه تمثالُ حبّنا وتعلّقُ روحين مندمجتين في روحٍ واحدة. روحان تهيمان دومًا في بوتقة موحّدة في هذه الدنيا كنصفين متماثلين. هاتان أنا وأنتِ الجميلتان أكثر من أيّ وقتٍ مضى نخطّ مراسم السلام والطمأنينة لروحينا. سهمان يطيران من عمق الساعة لنطعن قوس قبّة السماء. سأفتقدك كما تفتقدينني دائمًا المخلصة أبدًا دانا
مشاركة :