في فيلم « جمعية الشعراء الموتى « يقول البطل ( نحن لا نقرأ ولا نكتب الشعر لأنّه ظريف , نقرأ ونكتب الشعر لأننا أفراد من الجنس البشري, والجنس البشري ممتليء بالعاطفة، الطب, المحاماة, أدارة الأعمال , الهندسة) .. مضيفا : (هي حرف نبيلة ومهمة لكي نحافظ على الحياة، ولكن الشعر .. الجمال .. الرومانسية.. الحبّ ..هذه الأشياء هي الّتي نعيشُ من أجلها) . الشاعرة نادية الدليمي، وعبر ديوانها الأول الذي اصدرته قبل 6 أعوام «حبر على قلق» وعبر ديوانها الثاني «أفتعل خريفا لـ.. أتجرّد- نهايات 2019» تريد ان «تعيش الشعر» عبر الجمال، والرومانسية، والحب الشامل، برغم ما يحيط بهذا الشعر - والحبّ ايضا - من «إحباط» و«انتظارات» وما يتيسّر من قلق، باحت به قصائدها، وشكّل مِلْحها، وبإمتياز.. لأنّ (افتعالـ/ها) المثبّت على العنوان- هو حالة (كَيْد) أرادت به الشاعرة ان تقود قارئها ، ليتأكّد من خلاله بان ما اختارته لخريفها لم يكن سوى محاولة اخفاء لـ(ربيع) لم يزل ممتلئا بالحياة وباخضرارها، وأنّ اية قراءة مدقّقة ستكشف أن الأوراق ما زالت نابضة بالعنفوان، وأن هناك عافية إبداعية طافحة، وما الـ(تجرّد) الخريفي الذي إدّعته سوى مكيدة بيضاء القصد منها غوايتنا لقراءة منجزها .. وأشهد ان خطتها هذه قد نجحت معي !! وربّما من باب تبادل المكائد، سأتجاوز في قراءتي لديوانها «العنوان» الذي غالبا ما تتوقف عنده القراءات النقدية الحديثة، باعتباره « ثريا النص « والكاشف عن العلاقات الإيحائية بينه وبين نصوص المتن.، و سأسمح لقراءتي ان تتّخذ من الـ(مدخل) عتبة أولى، لأن الشاعرة إفتتحت به خريفها المفتعل، (وهو ما يمكنني اعتباره «الباب الموارب» الذي سأطل منه على ما أثّثته في بيتها الخريفي من قصائد )، معتقدا بانّ المدخل هذا لم يكن – ايضا- سوى إمعان في المكيدة التي افترضتها انا، او قادتني الى إفتراضها الدليمي.. تقول في المدخل: ( الكتابة ثمرة ألم نبيل .. أو .. هذا : ما سأحاول ان أوهمك به) ص7 والإيهام، بحسب قواميس اللغة، هو عكس اليقين ، ويشكّل محاولة لإيقاع الآخرين في الخديعة التي يجيزها الشعر بالتأكيد، باعتبارها احدى وسائل دهشته في المفارقة والغواية، ولكن بين الـ«إيهام» والـ«تحقّق» هناك عالم شعري سأحاول ان استقرئ بعض ملامحه عبر متنه النصّي، ومن خلال أدواتي القرائية المتواضعة.. تواجهنا عنوانات القصائد المثبّة في فهرس المجموعة بمسمّيات لافتة (حواس بالية – لحظة لم تجيء – نشيج دواة - الحبر اذا تنفّس – وجد أزرق – مزاج نهر – اغنية زاهدة.. الخ ). وعبر هذه العناوين ومتونها، سيتوصل المتابع الى يقين مفاده ان الدليمي لا تنتمي الا لنفسها، وهي أمينة لعوالمها الذاتية، بعيدا عن إدعاء إرتباطها بـ»العالم الخارجي» وإندماجها فيه، الا حين ينعكس ذلك العالم على «جوانيّتها».. فلا تناصات، او رموز، أو اساطير، أو فذلكة، او تهويم سريالي بلا جذر، وإنّما هناك بوح إنساني ترتمي فيه الشاعرة بكامل تصميمها عليه، ومن هذا التأسيس يمكنني القول انها تحتاج الى قراءة خاصة، قراءة غير منضوية تحت المشهد «النسوي» العام، والذي يطيب لبعض النقاد– والقرّاء أيضا – تعميمه، ليفقدهم الكثير من جماليات نص «الأنثى» المخالف للهيمنة الذكورية..... !! واذا كان الجوّ الوظيفي او الفعاليات المجتمعية قد ساويا بين الرجل والمرأة، غير ان السلطة الذكورية ما زالت مهيمنة، خصوصا في كتاباتهما (نزار قباني ومشتقاته، مثلا، ومستغانمي ومشتقاتها بالمقابل) .. وبعيدا عن هذه الموازنة، فانّ خريف نادية، يملك جرأة مختلفة التمرّد على الرقيب الذكوري، عابرا بهمّها الأنثوي الى مناطق تخصّها هي لوحدها، لأن بعض الشواعر يجعلن من مظلومية المراة قضيتهن الأساسية، وعلى الرغم مما في هذا التظلّم من مشروعية ، غير ان شاعرتنا بعيدة عن «مرافعاته المنبرية»، لكونها اتخذت من دواخلها ومن هواجسها، أحلامها وانكساراتها، همها الشعريّ الاول والاخير.. من دون ان تكون ناكرة ولا مدجّنة توقها الى الآخر – الحبيب، المفترض، او المتحقّق، وبجرأة بعيدة عن التصريح أو الابتذال المكشوف. ( وبودي أن أشير هنا الى بعض الإستثناءات المشابهة، داعيا الى قراءة أمل الجبوري - ريم كبه، نجاة عبد الله، فيء ناصر، ضحى الحدّاد، رلى براق، فراقد السعد، وعدنان الصائغ، رزاق الربيعي – للمشاكسة طبعا لهؤلاء الشعراء الكبار، فهم أعلام الشعر العراقي والعربي، لكنها روح المحبّة وانتهازها لذكر اسمائهم) !!. لنقرأ مع نادية البوح- الوسيط بين قلب الشاعرة، وبين محذوراتها الملغاة ..: عمياء لهفتي / فيا لريح قميصك / يا مانح الرغبة نشوة الإكتفاء – ص8. احتاج صوتك فنادني.. نادني لأتوهج ص 11. تختزل ضوئي كليل جامح لا انت تكبو، ولا انا انطفيء – ص12. أتلو المسافة لهفة لهفة فما بين صلصالي ومائك سفر من العطش – ص14. يسعدني ان تكون عصيا منيعا مسوّرا بالغموض فأتسلّقُ بإنوثتي جدران حصنك – ص 18. .. لا تعرف عني سوى ما تقوله حواسك البالية صاخبة حرائقي – ص 48. الحواس البالية التي لم تستطع حرائق النصوص الصاخبة إثارة انتباهها، هي التي عُنيتُ بانّها تحاصر «الأنثى» بالسلطة «الذكورية» . ولعلّ ما ذكره شيخ النقاد العراقيين، البروف «عبد الرضا علي» في كتابه «أوراق في تلقي النص الإبداعي ونقده»، فيه الكثير من التشخيص الصائب الذي أفاد قراءتي للديوان، حين قال، ان ( الذات الشاعرة قد تبيح لنفسها ان تعبّر عن دواخلها باساليب ملتوية مبهمة، لكنها لا ترى في هذا الابهام هدفا مقصودا، انما هو جزء من حياة النفس البشرية – ص 27) وقصائد نادية، بيقيني، هي الجزء الذي ذكره البروف، إن لم تكن هي النفس ذاتها، وتعيش في مجتمع يعود بتاريخه الى الوراء، وعلى كل الأصعدة.. مع الأسف. تنوعت وسائل التعبير في القصيدة المعاصرة، وأصبحت اللغة بما تحمل من طاقات جمالية وإيحائية تعكس رؤية الشاعر لما يحيط به، سواء كان هذا المحيط موجودات ام هواجس، أم « ذات » كتلك التي اتخذها «الخريف» المستدعى من قصائد نادية، عالما ينسج مفرداته بوعي، والجميل انه يقنعك بانها نتاج « لا وعي» . خيال، عفويّ خصب، ودهشة، وفضاءات جديدة مفتوحة للنصوص، كلها تجعلك تهجس ان هذه الشاعرة تزرع ارض ديوانها بالغام جمالية عليك أن تكتشفها، مثلما عليك ان تحاذر مما تنصبه صورها لك من كمائن.. أليس القصيدة – على رأي الناقد الكبير ياسين النصير -، هي (كتلة من الصور وليست كتلة من الكلمات): لا ضير ان كانت خطواتي غير واضحة فأنا لا انتظر من يقتفيني ( ص 45 ) . الذكريات لم تعد وجبة مُقنِعة سألمّ فتات عمري وأصنع منه بهجة تلتهمني ( ص 53 ). والذي يعرف الشاعرة، لابدّ وانه قد تعايش مع قلّة معايشتها للكلام، وغياب الضجيج الصاخب من يومياتها : ( انا كائن ليلي لا أحبّ فظاظة الأضواء – ص 40 ) وقلة الكلام هذه، والهدوء، واللا ضجيج، قد انعكس على نصوصها في هذا الديوان، وفي ديوانها السابق ايضا « حبر على قلق – وقد سبق لي ان كتبت عنه» ففي كلا الديوانين ثمة اقتصاد لغوي، وتكثيف للبيت حدّ الوصول به احيانا الى كلمة او كلمتين (أحتاجك حبرا لأتنفس – ص10مثلا) ومن خلال تحشيد طاقات المفردة عبر الإيحاء، والإبتعاد عن الثرثرة، او الدخول في تفاصيل لا يكمن الشيطان الشعري فيها، سعت الدليمي الى خلق توازن بين الداخل «النفسي» وبين الخارج « المعيش»: .. تكرّرني الحياة فأضجر ملء عمري ( ص 9 ). تساقطوا بغزارة اولئك الذين تلبّد القلب بهم دون رعد دون برق وحدها روحي كانت تقصف حزنا آنذاك ( ص 20) . تلطم الريح جبهتها حين ترانا نطفو على وجه الحياة كسفن فقدت شهيتها يجري الزمن بمحاذاتنا فنسرق منه ما يقوّت اعمارنا ونكبر دون جلبة . ( مطاف ص 37 ) . ( الانتظار مؤلم، والنسيان مؤلم أيضا، لكن معرفة أيهما تفعل هو أسوأ أنواع المعاناة – باولو كويلو). وعلى سكّتي هذين الخطين ( الإنتظار / النسيان ) سار قطار غالبية نصوص نادية. وربما لدى السياسيين، ان الإنتظار نوع من النضال « لينين» لكنه لدى الشعراء قرين للخيبة، ولإنطفاء الأمل، وهو ما يلمسه المتلقي بين دفتي النصوص: قبل ان انام اكتب السيناريو لأحلامي بنهايات سعيدة اسند لك دور البطولة لكنك في كل ليلة تخرج عن النص وتتركني وحيدة ( ص 41 ) . لا ضير ان كانت خطواتي غير واضحة فانا لا انتظر من يقتفيني ( ص 45 ) . لأني انا التي فسرت لمعانك ذهبا سأفنّد مزاعم انطفائك ولن أعتبر الصدأ دليلا - ( ص 50 ) بموازاة هذا الخط ، يمتدّ خيط «النسيان»، والذي يشخّصه علم النفس بانه عارض مرضي، قد يحتاج الى تدخل جراحي، وأنه يقع بين أقانيم ثلاثة اللحظات المعاشة، مرحلة التخزين، ثم فتح المخازن عند الاستدعاء لكنه مع الشاعرة يأخذ بعدا آخر، تفقد فيه هذه الحدود الثلاثة خطوط تماسها، وتتحوّل الى أفق هلامي..: في النهار أنسى الاشياء المهمة في الليل أنسى أهمية الاشياء – ( ص 9 ) أتأرجح على عتبة نسيانك وعر نسيانك ها أنا أكبو بزلة قلب عند أوّل ذكرى ( ص 15 ). بالتأكيد... وتجربة الشاعرة المبدعة نادية الدليمي، لم تزل في بدايات النضج، هناك ما يمكن رصده من هنات هنا او هناك، لكن المواصلة والاصرار على الإنجاز يخلق إسما ذا بصمة، والرهان على قادم شاعرتنا رهان رابح وليس مغامرة عابرة. أخير اٌقول للشاعرة المبدعة، لن تكوني كما ذَكَرتِ في إفتعالك للخريف ( مجبرة على التصفيق/ وبيد واحدة ) لأن عشرات الايادي ستصفّق لنصوصك التي سينتظرها الكثير من الألق. واذا كان لمحافظة الأنبار العريقة، «دليمية» كرم وضيافة تتباهى بها، فان لها الأن «دليمية» ثانية تدعو الى الفخر والاعتزاز.
مشاركة :