«الحرب بين الكتب» لسويفت: معركة دامية بين القدامى والجدد

  • 11/10/2015
  • 00:00
  • 15
  • 0
  • 0
news-picture

كانت رواية الكاتب الإنكليزي جوناثان سويفت «رحلات غيليفر»، حاضرة في الحياة الأدبية العالمية والشهرة لدى الجمهور العريض في بلاد العالم، الى درجة كان من المنطقي أن يخيّل معها الى كثر أن هذا الكاتب المبتكر الساخر لم يكتب طوال حياته سوى ذلك العمل التأسيسي. والحقيقة هي عكس ذلك تماماً: كان سويفت في زمنه وخلال سنوات الذروة في مساره المهنيّ، كاتباً غزير الإنتاج لم يتوقّف في حياته عن الكتابة، وإن كان عرف دائماً بأنه، في كتابته كما في حياته، كان غريب الأطوار، محاطاً بالتكتّم. وحسبنا أن نذكر هنا ما يُروى عن الطريقة التي أوصل بها سويفت، مخطوط روايته «رحلات غيليفر» الى الناشر، حتى ندرك غرابته: إذ تروي الحكاية أنه حدث ذات يوم أن مرّ حوذي بعربة بالقرب من باب يفضي الى مكتب الناشر، وهو ما إن وصل إلى هناك حتى أبطأ سرعة عربته ليرمي حزمة من الأوراق داخل المكان مختفياً بسرعة بعد ذلك. هكذا وصل المخطوط من دون أن يعرف الناشر في ذلك الحين طبعاً، من الذي أوصله بل حتى من الذي كتبه، لكنه فهم طبعاً أن في إمكانه أن يحوّل المخطوط الى كتاب، كما فهم بعد قراءته المخطوط أن لديه كنزاً أدبياً. وعلى هذا الأساس، نشرت الرواية في ذلك الحين، وراح الناس يتساءلون عمن يكون كاتبها. ونعرف بالطبع، أن هذه الرواية، بقدر ما كانت عملاً أدبياً خيالياً كان على طريقته الخاصة رائداً في أدب الخيال - العلمي، كانت في الوقت نفسه، نصاً غايته الأساسية السخرية من أهل ذلك الزمان، لا سيما من المثقفين وأدعياء الثقافة، وانتقادهم. والحال أن سويفت كرس القسم الأعظم من كتاباته للسخرية من مواطنيه وغيرهم، هو الذي مكّنته ثقافة كلاسيكية رفيعة المستوى تمكّن من تحصيلها باكراً في صباه، من أن يعيش الأدب ولا سيما الأدب الأخلاقي اليوناني القديم بكل جوارحه، هو الذي كان يرى أن اطلاع الناس على ذلك الأدب وفهمهم له كفيلان بتهذيب أخلاقهم وجعل عصرهم كلّه عصراً ذهبياً. > لكننا نعرف أن سويفت كان، على هذا الصعيد على الأقل، يائساً... وبالتحديد لأن ثقافته وعلمه كانا يمكنانه من أن يدرك حقيقة الأهواء والنزعات البشرية. لذلك كان يرى، كما يبدو، في الكتابة خلاصاً ذاتياً له. غير أن من الإنصاف أن نشير هنا الى أنه كانت هناك فترة من حياة سويفت، «طوّر» فيها موقفه من الأدب بعض الشيء، ليضع موهبته الأدبية في خدمة الأحزاب السياسية، ذات اليمين مرة وذات اليسار مرة أخرى... وكان من الواضح أنه إنما كان يتوخى بذلك أن يخوض العمل السياسي بدوره... لكنه أخفق، إذ تبين له أن الحزبين المتناحرين («الأحرار» و «المحافظين») اللذين كانا يهيمنان على الحياة السياسية في بريطانبا ذلك الزمن، وكانا بالتالي الحزبين الرئيسيين اللذين ساند سويفت كلاً منهما بكتابته في شكل متعاقب، إنما كانا يستغلانه ويستغلان مواهبه الأدبية لا أكثر. المهم أن هذا دفع سويفت الى الابتعاد من العمل السياسي المباشر، كما أنه كان ابتعد قبل ذلك من الخدمة الدينية بعدما كان يريد أن يكون قسيساً. ولم يبق له سوى الأدب. ومن هنا تعززت كتابته وارتفعت فيها حدة سخريته المعبرة، بخاصة، عن المرارة. وعلى عكس ما يعتقد كثر، لم تكن «رحلات غيليفر» أول أعمال سويفت الكبرى... بل كانت عملاً متأخراً في مساره. أما العمل الأول الذي كتبه واشتهر له، فكان «حرب بين الكتب». > وجوناثان سويفت كتب «حرب بين الكتب» حين كان في الثلاثين. وهو كتب هذا النص الساخر، لكي يؤيد فيه قريبه السير ويليام تمبل، الذي كان مؤلفاً معروفاً وأحد أعيان القوم، وكان آوى سويفت في بيته وحضنه منذ شبابه اليافع. وكان تمبل يخوض، في ذلك الحين، معركة أدبية عنيفة مع أنصار الجديد، بصفته واحداً من المدافعين عن الأدب القديم. ومن هنا، فإن كتاب «حرب بين الكتب» عبارة عن صورة أدبية لتلك المعركة التي كانت تقوم في ذلك الحين بين القدماء والجدد. ولئن كان سويفت كتب النص من أجل قريبه تمبل، فإن هذا الأخير لم يتمتع به كثيراً، إذ إنه مات في العام 1699، أي قبل نشر الكتاب بخمسة أعوام. > منطلق الكتاب يبدأ، إذاً، مع السير ويليام تمبل، الذي لأنه كان يرى أن الرسائل الأسطورية المنسوبة الى فالاريس صحيحة، يكتب تمبل نصاً يشيد فيه بتلك الرسائل، ضمن إطار إثباته فضل القدامى وعظمتهم في الفكر والأدب... ثم يعقد مقارنة دقيقة بين القدامى والجدد متحدثاً عن فضائل هؤلاء، وأولئك (وكانت معركة من هذا النوع نفسه اندلعت في فرنسا أيضاً). وإذ يرجّح تمبل القدامى على الجدد، يتعرض لهجوم عنيف من زميله المفكر ويليام ووتون، الذي يسانده عالم الإغريقيات الذي كان شهيراً ومرجعاً في ذلك الحين، ريتشارد بنتلي. وهكذا يلتقط سويفت القضية، عن قناعة ربما، أو عن رغبة في مسايرة قريبه المنعم عليه، ليخوض المعركة دفاعاً عن تمبل ضد مهاجميه. ويختار سويفت، كعادته في حياته وفي كل ما يكتب، أسلوباً ساخراً... حيث يتخيل معركة حامية الوطيس - معركة الحربية حقيقية - تدور حين يطلب الجدد من القدامى أن يرحلوا عن واحدة من قمتي جبل البارناس، كانوا يحتلونها حتى ذلك الحين. وتقوم الكتب المدافعة عن موقف الجدد بمهمة دفع القدامى بعيداً من القمة، لحساب الجدد. لكن قبل أن يبدأ الصراع الحقيقي، يقوم، تحت قلم سويفت، سجال عنيف بين عنكبوت يعيش في زاوية من مكتبة، ونحلة كانت علقت في شبكة العنكبوت. ومن ذلك السجال يستخلص إيزوب صاحب الأمثال الشهيرة، العبرة: إن العنكبوت هو مثل الجدد الذين يمارسون علمهم بمواد يستخلصونها من داخل ذواتهم، أما النحلة فإنها مثل القدامى تأتي بالعسل من الطبيعة. ومن الواضح هنا، أن تعليق إيزوب هو الذي يعلن بداية المعركة. وهكذا تصطف الكتب في جانبين: ثاسيوس وميلتون وغيرهما يقودون خيالة أهل الحداثة الجدد، وديكارت وغاسندي وهوبس يتولّون سلاح النبال، فيما يقود المشاة كلّ من غيشاردان، دا فيلا، وفرجيل. أما خيالة القدامى فيقودها هوميروس، ويقود بندار الخيالة الخفيفة، ويتولى إقليدس سلاح الهندسة، وأفلاطون وأرسطو فرقة النبال، فيما يقود هيرودوتس وتيت - ليف سلاح المشاة. أما الجدد فإنهم يستخدمون في معركتهم رنة النقد العنيفة وذات الحيل. ويقدم لنا سويفت هنا وصفاً ظريفاً للمعركة. منه مشهد قوي حين يرمي أرسطو سهماً ناحية بيكون، لكنه يخطئه فيصيب السهم ديكارت. ومشهد آخر يخوض فيه فرجيل معركة عنيفة ضد مترجمه الى الإنكليزية درايدن، حيث فيما يتقدم حصان فرجيل بهدوء وثقة، يصخب حصان درايدن تحت ثقل المعادن التي غطي بها وهمها إثارة ضجة من دون طحن، خصوصاً أن درايدن حمل على رأسه غطاء يزيد وزنه تسعة أضعاف عن وزن درايدن نفسه. وفي نتيجة المعركة، يكون الانتصار، كما هو متوقع، من نصيب القدامى، الذين يردون الهجوم. غير أن ذلك يؤدي الى هدنة يقررها الطرفان... ما يجعل نتيجة الحرب معلقة، حتى وإن بدت نتيجة المعركة نفسها واضحة وذات دلالة. > ولد جوناثان سويفت في دبلن في إرلندا في العام 1667، في أسرة فقيرة، ما اضطره الى أن يتعلم على حساب عمين كريمين له. وهو عُيّن في العام 1690 سكرتيراً لقريب آخر له هو السير ويليام تمبل. وهناك في دارة هذا الأخير، تفتحت مواهبه وراح يطلع على أهم كتب الأدب القديم والحديث. كما أنه تزوج من صبية تعمل في البيت نفسه. ولدى وفاة تمبل، بدأ سويفت يخوض الصراعات الأدبية والفكرية وكانت محاولاته في العمل السياسي، لكن هذا كله لم يجده نفعاً... فانصرف الى الكتابة والى حياة عابثة بين امرأتين، واحدة سرية والأخرى معلنة. وحين اكتشفت كل منهما وجود غريمتها، ماتتا واحدة بعد الأخرى، ما أحزنه وجعله يعيش بقية حياته حتى 1745 في حزن ومرض.

مشاركة :