منهج التذوق.. الفريدة الأدبية لمحمود شاكر

  • 12/4/2021
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

إن اللغة العربية في تراثنا العربي والإسلامي كانت في مقدمة العلوم والمعارف الباعثة في البنية العقلية، فلا غرو أن تحمل أصول الألفاظ فيها كلمة لها دلالة لفظية ذات موقف قيمي داخل المفهوم العميق لها، وهي لفظة (المنهج) بما يحمله من كنوز حضارية وثقافية، يعتمد في ذلك الاستدلال والبحث والنظر؛ ليعني المنهج الطريق الواضح المستقيم الذي يفضي بصحيح السير فيه إلى غاية مقصودة وهو ما أشار إليه التهانوي بقوله عنه «ما يكون في حد ذاته آلة لتحصيل غيره، ولابد أن يكون متعلقاً بكيفية تحصيله، فهو متعلق بكيفية عمل» وقال عز وجل «لكُلّ جعلنا منكم شِرعةً ومنهاجاً» المائدة الآية 48 – فلا مبالغة في القول إن أهم إنجازات ثراثنا تأتّت في مجال المنهج حيث عبر بنا إلى روح التقدم المعرفي الذي نحياه الآن في فلسفة العلوم ودورها المعرفي الناهض للفكر المنهجي المعاصر. وجدير بنا أن نقف على منهج غير مألوف، جعل من العودة الى مكامن الثقافة الإسلامية سر قوته، قائلاً لعلماء وأدباء العالم العربي: اقرأوا تاريخكم بعين عربية بصيرة لا بعين أوروبية تخالطها نخوة وطنية. فكان النازلُ في ميدان (المنهج) وما (قبل المنهج) هو الأديب الأريب والمؤرخ الفذّ أبو فهر محمود محمد شاكر المولود في الإسكندرية 1909م والمتوفى رحمه الله 1997م صاحب المنهج المعروف بمنهج (التذوق). منهج بدأت جذوره التاريخية تتشكل عندما سقط آخر معقل للصليبين في بلاد المسلمين عام 690هـ ، فكان ذلك باعثاً على إثارة روح الشك والتساؤل والتنبه لدى الأوروبيين هل ما قاله رهبانهم عن المسلمين صدقاً أم أوقعوهم في الزيغ والضلال؟ والحدث الآخر عندما فتحت القسطنطينية عام 857هـ، فهي لحظة فاصلة حيث أيقنت المسيحية أن المواجهة المسلحة ضد المسلمين لن تفيد، ولابد من معركة أشد ذكاءً ومكراً، وبدأت فصول الحكاية بالاستشراق ثم الاستعمار ثم التبشير. استغرق منهج التذوق عند أبوفهر عشر سنوات من البحث والقراءة في كتب السلف وأصحاب الملل والنحل، وكتب الأدب والبلاغة وأوقفه مع عبدالقادر الجرجاني في كتابه (الرسالة الشافية) وسيبويه حيث سبقاه إلى منهج التذوق، وبعد أربعين سنة كتب محمود شاكر كتابه (المتنبي)، وجعل مقدمته (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) ليكشف السر عن منهجه الفريد وعن العديد من القضايا الأساسية المتصلة بثقافتنا العربية الحديثة وطريقة التصدي لتيار الاستشراق. حيث كان مدد اليقظة الأوروبية مستجلباً من علوم المسلمين، وكان السبيل إليها معرفة لسان العرب، ولا تتحقق هذه المعرفة إلا برجال يسيحون في أرض الإسلام يتعلمون لسانها، ويجمعون الكتب أو يسرقونها. أشار أبو فهر إلى أن في كل لغة وأمة وفي كل مِلّةٍ وثقافة شروط محكمة لا يمكن إغفالها البتة وهي: اللغة والثقافة والأهواء، وهذه الشروط الثلاثة إذا لم تجتمع في أهل البحث والعلم والكتابة، لم يكونوا أهلًا للنزول في ميدان المنهج، وأن ما يفعله المستشرقون لا يمت للمنهج بصلة، فلغتهم متباينة مع لغتنا وكيف لا وهي وعاء الثقافة التي لابد للإيمان بها عن طريق العقل والقلب ثم العمل بها لتذوب في بنيان الإنسان ثم الانتماء اليها بكافة جوارحه، بل الداء العضال لديهم في اتباع أهوائهم دون قيد الأمانة، فكيف يكون ما كتبه المستشرقون عملاً علمياً أو بحثاً منهجياً؟ وهذا ما جعل محمود شاكر يؤكد بطلان (عالمية الثقافة) قائلاً «أليس هذا شيئاً لا يطاق سماعه ولاتصوُّره؟ أليس لمثل هذا شبيه البته في أي لغة وأي ثقافة كانت في الأرض؟» فالثقافات متعددة، ولكل ثقافة أسلوب في النظر والاستدلال ركيزتها دينها ولغتها واخلاقها، والثقافات المتباينة تتحاور وتتناقش، ولكن لاتتداخل تداخلاً يفضي إلى الامتزاج، ولا يأخذ بعضها عن بعض شيئاً، إلا بعد عرضه على أسلوبها في التفكير والنظر والتعديل بما يتوافق مع هويتها. يقول علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: «قيمة كل امرىءٍ ما يحسنه» وقيمة كل أمة في أصالة ثقافتها. فالثقافة كلٌّ لا يتجزأ وبناءً لا يتبعض.

مشاركة :